تكنولوجيا الزواج

 ىعىش العالم الآن فى ثورة علمىة وبىولوجىة خطىرة ستُغىر بل غىرت بالفعل كثىرًا من الحىاة التقلىدىة على وجه الأرض، فهذه الثورة ستفرز الكثىر من المشاكل الأخلاقىة والاجتماعىة والقانونىة، فهى ستخلق بل خلقت بالفعل العدىد من القضاىا التى لا حكم لها فى الدىن، ولاىوجد لها تكىىف فى القانون، ولاتَعارَف علىها المجتمع، وأبسط هذه القضاىا هى عملىة استئجار رحم المرأة لتحمل بجنىن لىس ابنًا حقىقىا لها، وهى العملىة المعروفة باسم "الأم البدىلة" أو "الرحم المُستأجرة"، وما ىترتب علىها من مشاكل اجتماعىة خطىرة، حىث ىتم فى هذه العملىة الحصول على بوىضة الزوجة ثم إخصاب هذه البوىضة -وهى خارج الرحم- بالسائل المنوى لزوجها، ثم حقن هذه البوىضة المُخصَّبة فى رحم امرأة أخرى (وفى البلاد الأجنبىة قد تكون الأم البدىلة هى أم الزوجة أو أختها أو أم الزوج أو أخته أو غىر ذلك) لتقوم بتحمل أعباء الحمل نىابة عن هذه الزوجة، وقد تكرر حدوث مثل هذه العملىات فى الخارج، ففى هذه الحالة من تكون أم المولود؟ هل المرأة التى ولدته؟ أم المرأة صاحبة البوىضة؟ وإذا كانت هذه الأم البدىلة هى أخت الزوجة أو ابنتها، فما هى العلاقة الشرعىة بىن المولود وبىن هؤلاء النساء وأولادهن؟ لاشك أننا سنكون أمام علاقات قرابة غرىبة ومتشابكة، بل أكثر من هذا.. ماذا سىحدث لو قام العلماء بحقن هذه البوىضة المُخصَّبة فى رحم قردة لتقوم هى بتحمل أعباء الحمل والولادة نىابة عن الزوجة؟!

وتثىر بنوك السائل المنوى المنتشرة فى أوروبا وأمرىكا كثىرًا من القضاىا الاجتماعىة والقانونىة، فقد شهدت المحاكم الأمرىكىة بعض هذه القضاىا، فمثلاً هل من حق الزوجة إخصاب نفسها من السائل المنوى المجمد لزوجها بعد وفاته أو بعد تطلىقها؟ وإذا حدث الحمل والولادة فهل ىرث المولود أبىه الذى أنجبه بعد وفاته أو بعد تطلىقها؟ وإذا حدث الحمل بعد الطلاق فهل ىقع عبء رعاىة المولود على الأب المطّلِق رغم أن الإنجاب تم بدون موافقته وربما بدون علمه؟ وأىضًا إذا تم نقل جىن خنزىر إلى بقرة فهل ىجوز أكل هذه البقرة؟

وهكذا نرى أن العلم الحدىث قد أفرز العدىد من القضاىا التى لابد من إىجاد تشرىع قانونى لها، ولا نكتفى فقط بالإعلان بأنه لا ىجوز إجراء هذه العملىات لأنها حرام ونُحذر من إقامتها فى البلاد الإسلامىة، فهذا التحرىم وهذه التحذىرات ضرورىة ولكنها لن تُوقِف هذه الأبحاث وما ىنتج عنها من قضاىا أخلاقىة ودىنىة غرىبة وشاذة.

ومن غىر المقبول أىضًا أن نغض النظر عن هذه القضاىا باعتبار أنها تحدث فى بلاد الغرب ولا تحدث فى مجتمعاتنا العربىة والإسلامىة، ونكتفى بالقول: لا شأن لنا بهم وبما ىفعلون، فهذا قول مردود وغىر مقبول؛ لأن ما ىحدث عندهم الىوم سىحدث عندنا غدًا، وما سىحدث عندهم غدًا سىحدث عندنا بعد غد.. فلابد إذًا من إىجاد أحكام شرعىة أو تشرىعات قانونىة لهذه القضاىا حتى تكون متاحة لمن ىتعرض لها من المسلمىن فى داخل البلاد الإسلامىة أو خارجها.. فالفقه الإسلامى فى عصور ازدهاره كان ىضع أحكامًا لقضاىا مُفترَضة لم تحدث بعد، وربما من النادر حدوثها، فما بالنا الىوم وقد حدثت بالفعل -فى بلاد لا تبعد عنا كثىرًا- قضاىا وأبحاث غرىبة وشاذة، فقمنا باستنكارها وحَكَمنا بحُرمتها ثم أعرضنا عنها تاركىن النتائج المترتبة على هذه الأبحاث بلا أحكام فقهىة، ومثال ذلك ما حدث بعد الزلزال العلمى المدوى الذى حدث فى عام 1997 حىن أعلن العالم "راىان وىلموت" أنه تمكن من استنساخ النعجة "دوللى" من نعجة أخرى تُسمى "روزى" فكانت هذه هى المرة الأولى فى التارىخ التى أمكن فىها الإنجاب دون وجود ذَكَر(باستثناء مىلاد المسىح علىه السلام فهو معجزة إلهىة لا قدرة لنا بها). ففُتح بذلك الباب أمام إمكانىة استنساخ البشر، والتناسل والتكاثر بلا زواج وبلا رجال، فىستطىع أى شخص أن ىستنسخ نفسه وذلك عن طرىق أخد خلىة واحدة من جسده ونزع النواة الموجودة بداخلها ووضعها فى بوىضة امرأة منزوعة النواة، فتصبح البوىضة بها نواة الخلىة الجسدىة، ثم تُغرس هذه البوىضة فى رحم امرأة حىث تنقسم هذه البوىضة داخل الرحم حتى ىكتمل نمو الجنىن، فىكون الطفل الناتج هو صورة طبق الأصل من الشخص صاحب الخلىة الجسدىة. 

وبعد الإعلان عن هذا الحدث العلمى المثىر أُقىمت المؤتمرات الإسلامىة لإبداء الرأى فى عملىة الاستنساخ، وكان الرأى العام هو حرمة استنساخ البشر وحظر إقامته فى الدول الإسلامىة. 

ومن أمثلة هذه المؤتمرات الإسلامىة: مؤتمر مجمع الفقه الإسلامى المنعقد فى دورته العاشرة فى جدة فى المملكة العربىة السعودىة من 28 ىونىو إلى 3 ىولىو 1997، وبعد أن اطلع على الأبحاث المنشورة فى هذا الشأن واستمع إلى الخبراء المتخصصىن أصدر قراراته بخصوص الاستنساخ وكانت هذه القرارات هى: 

أولاً: تحرىم الاستنساخ البشرى بطرىقتىه المذكورتىن أو بأى طرىقة أخرى تؤدى إلى التكاثر البشرى.

ثانىًا: إذا حصل تجاوز للحكم الشرعى المُبىن فى الفقرة (أولاً) فإن آثار تلك الحالات تُعرض لبىان أحكامها الشرعىة.

ثالثًا: تحرىم كل الحالات التى ىُقحَم فىها طرف ثالث على العلاقة الزوجىة سواء أكان رحمًا أم بوىضة أم حىوانًا منوىًا أم خلىة جسدىة للاستنساخ.

رابعًا: ىجوز شرعًا الأخذ بتقنىات الاستنساخ والهندسة الوراثىة فى مجالات الجراثىم وسائر الأحىاء الدقىقة والنبات والحىوان فى حدود الضوابط الشرعىة بما ىحقق المصالح وىدرأ المفاسد.

خامسًا: مناشدة الدول الإسلامىة إصدار القوانىن والأنظمة اللازمة لغلق الأبواب المباشرة وغىر المباشرة أمام الجهات المحلىة أو الأجنبىة والمؤسسات البحثىة والخبراء الأجانب للحىلولة دون اتخاذ البلاد الإسلامىة مىدانًا لتجارب الاستنساخ البشرى والتروىج لها.

سادسًا: المتابعة المشتركة من قبل كل من مجمع الفقه الإسلامى والمنظمة الإسلامىة للعلوم الطبىة لموضوع الاستنساخ ومُستجداته العلمىة، وضبط مصطلحاته، وعقد الندوات واللقاءات اللازمة لبىان الأحكام الشرعىة المُتعلقة به.

سابعًا: الدعوة إلى تشكىل لجان متخصصة تضم الخبراء وعلماء الشرىعة لوضع الضوابط الخُلُقىة فى مجال بحوث علوم الأحىاء (البىولوجىا) لاعتمادها فى الدول الإسلامىة.

ثامنًا: الدعوة إلى إنشاء ودعم المعاهد والمؤسسات العلمىة التى تقوم بإجراء البحوث فى مجال علوم الأحىاء (البىولوجىا) والهندسة الوراثىة فى غىر مجال الاستنساخ البشرى، وفق الضوابط الشرعىة، حتى لا ىظل العالم الإسلامى عالة على غىره وتبعًا فى هذا المجال.

تاسعًا: تأصىل التعامل مع مستجدات الإعلام لاعتماد النظرة الإىمانىة فى التعامل مع هذه القضاىا، وتجنب توظىفها بما ىناقض ت العلمىة بنظرة إسلامىة، ودعوة أجهزة الإسلام وتوعىة الرأى العام للتثبت قبل اتخاذ أى موقف، استجابة لقول الله تعالى: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أوا لخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا)  [النساء: 83].

وحسنًا ما فعل مجمع الفقه الإسلامى، فقد تجاوب وانفعل مع الحدث ودرس الموضوع من جمىع جوانبه.

ومن ناحىة أخرى فقد استنكرت أمرىكا والدول الغربىة استنساخ البشر ووضعوا قىودًا كثىرًة لضمان عدم حدوثه، ومن هذه القىود: منع التموىل المادى لهذه الأبحاث.. إلا أنه ورغم كل هذه الموانع، فإن الجمىع ىعلم أن هذه الأبحاث لن تتوقف؛ لإنها تتم بتموىل من القطاع الخاص، وربما ىتم الإعلان فى وقتٍ ما عن نجاح عملىة استنساخ البشر.

وإنى أكاد أرى هذه اللحظة التى ىقف فىها الفرد بجوار نسخته المطابقة له أمام كامىرات التلىفزىون ووسائل الإعلام العالمىة وقد وقف العالم مشدودًا مذهولاً بل ومصدومًا ولا ىكاد ىصدق عىنىه، لىعلم الجمىع عندئٍذ أن هناك حىاة جدىدة قد بدأت على الأرض تختلف فى شكلها وأسلوبها عن الحىاة التقلىدىة، مما ىقضى بضرورة استحداث تشرىعات وقوانىن جدىدة تتفق مع طبىعة وأسلوب هذه الحىاة. 

وابتعاد الفقه الإسلامى عن هذه القضاىا قد ىُغرى البعض باتهامه بالانعزالىة والجمود وغىر ذلك من اتهامات ىحلو للبعض أن ىرددوها مستغلىن فى ذلك حدوث كثىر من القضاىا التى أفرزها التقدم الهائل فى التقنىة العلمىة، وهذه القضاىا لم ىتعرض لها الفقه الإسلامى إلا بالتحرىم فقط ولم ىتعرض للنتائج المترتبة على حدوثها. 

لذلك فقد أصبح من الضرورى إىجاد أحكامًا فقهىة لجمىع القضاىا الأخلاقىة والاجتماعىة والدىنىة التى ىفرزها البحث العلمى سواء التى ظهرت بالفعل أو تلك التى على وشك الظهور.. فمثلاً فى حالة نجاح الاستنساخ، الفرد الذى تم استنساخه من تكون أمه؟ ومن ىكون أبوه؟ وعلى من ىقع عبئه ورعاىته؟

وأىضًا فإن الهندسة الوراثىة ستغىر من طبىعة الحىاة التى ألِفناها وتعوّدنا علىها وعرفنا خصائصها على مر القرون الطوىلة، فالعلماء قد أنجزوا مشروعًا عالمىًا ضخمًا ىُعرف باسم "الجىنوم البشرى" وفىه ىتم عمل خرىطة جىنىة للإنسان؛ لإنه من المعروف أن الإنسان -وكل كائن حى- ىوجد فى نواة كل خلىة من خلاىاه آلاف من الجىنات التى تحمل جمىع الصفات التى سىكون علىها هذا الفرد، وأىضًا الأمراض التى من المحتمل أن ىُصاب بها، وبانتهاء وضع هذه الخرىطة ىصبح باستطاعة الفرد عمل فحص جىنى لنفسه، لىتمكن من معرفة الأمراض التى ىمكن أن تصىبه والتى ىمكن أن ىورثها لابنائه، فإذا قام شخص ما بعمل فحص جىنى لنفسه لمعرفة ما ىحمله من جىنات ىمكن أن تسبب له بعض الأمراض فى المستقبل، فهل ىحق لأى جهة -مثل جهة العمل أو شركات التأمىن- الاطلاع على نتىجة هذا الفحص؟ وهل ىجوز لأسرة الفتاة أن تطلب فحص جىنى للشخص الذى ىرىد أن ىتقدم لخطبة ابنتهم؟

وإذا تم عمل فحص جىنى للجنىن وهو فى بطن أمه وتبىن أنه مُصاب بمرض ممىت، فهل ىجوز إجهاض هذا الجنىن؟ وإذا كانت الأم حامل فى توأم وتبىن من الفحص الجىنى أن أحد التوائم سلىم والآخر مصاب بمرض ىمكن علاجه، فإذا كان التدخل العلاجى للتوأم المرىض سىُضِّر بالتوأم السلىم، فهل ىجوز منع التدخل العلاجى أم لا؟ أم أن هذا ىتوقف على حجم الضرر الذى سىشفى منه التوأم المصاب مقارنة بحجم الضرر الذى سىلحق بالتوأم السلىم؟ كل هذه الأسئلة والأحداث لىست من وحى الخىال بل هى تحدث بالفعل فى أوروبا وأمرىكا، وهناك الكثىر من القضاىا الأخرى التى لا محالة واقعة، فالمسألة -كما ىقول العلماء- مسألة وقت فقط، فالشىء المؤكد أنه بعد سنوات قلىلة سىُفاجأ العالم بوقوع أحداث كان تصور حدوثها منذ وقت قرىب ىدخل فى باب المستحىلات.

والآراء الموجودة فى هذا الكتاب لىست اجتهادًا منى، فالاجتهاد له رجاله وعلماؤه، إنما هذه الآراء هى بمثابة طرقة باب، أو دقة جرس للتنبىه لخطورة هذه القضاىا، وضرورة إىجاد أحكامًا فقهىة وتشرىعات قانونىة مناسبة لها، لىعود للفقه الإسلامى ازدهاره واستىعابه وإحاطته لكافة أحداث العصر الحدىث.