صقر المرابيب ورحلته مع مرض الباركسون
هذا الكتاب المختصر هو ترجمة وسيرة ذاتية لشخص عزيز من الكويت الشقيق هو الأخ الفاضل صقر مناور المرببي العجرمي من بني رشيد من قبائل عبس العدنانية وقد قويت الصداقة والألفة فيما بيني وبينه بعد زيارتي الأخيرة للكويت في أوائل شهر أبريل من هذه السنة 2013م، لقد كان حقًّا مضيافًا كريمًا استقبلني في بيته بمحافظة الأحمدي بكل حفاوة وسرور ومعه جميع أولاده الكرام وجزاهم الله تعالى خيرًا وأكثر من أمثالهم في مجتمعنا العربي.
وبعد هذه الزيارة للأخ صقر صارت لي في قلبه معزة كبيرة وتقدير وود فسبحان من ألف بين القلوب، وبعد عودتي للقاهرة في أواخر أبريل كان صقر دائم الاتصال بي وكأني أعرفه من سنين طويلة، وكما ورد في الحديث النبوي قال الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام (الأرواح جنود مُجنَّدة من تعارف منها إإتلف ومن تنافر منها اختلف)، وفي أوائل شهر سبتمبر من عام 2013م اتصل بي صقر من مطار القاهرة فجأة وقال أنه في زيارة لمصر لمدة أسبوع كامل وقد جاء خصيصًا ليراني ويسلّم عليَّ فقلت له: حياك الله في بلدك الثاني. وقد طلب أن ينزل في فندق قريب من سكني في حي النزهة الذي هو قريب من المطار بمسافة لا تزيد عن ثلاثة كيلو مترات.
وكانت هذه الزيارة للأخ صقر تؤكد طيبة هذا الرجل وإخلاصه ونقاء سريرته ونال تقديرًا كبيرًا مني وقد كنت أزوره في الفندق يوميًا وحضر لمنزلي مرتين، وقد لاحظتُ عرقلة في سيره ولم تأت مناسبة للاستقصاء عن ذلك منه عندما زرته بالكويت ولكن لما جاء للقاهرة سألته فقال متنهدًا: لربما يدور في خلدك أنني أعرج من جراء حادث. قلت: صحيح لقد توقعتُ ذلك. قال: إن هذا من جراء مرض نادر خطير أصابني قرابة تسع سنوات وكان عمري حين إصابتي به حوالي 59 عامًا وقد شفيت منه وعمري 68 عامًا وكان عبارة عن رعشة قوية تنتاب جسمي كله ولا أستطيع الحركة وقضاء الحاجة ونومي قليل جدًّا وطعامي كان لا يستقر في جوفي، إنه بلاء عظيم ابتليت به وصبرتُ له صبر أيوب عليه السلام، وبعد أن عجز الأطباء الفرنسيون وغيرهم في أوروبا عن علاجه أراد الله أن يكون على يد الأطباء العرب من لبنان الشقيق، فقد تم معرفة المرض النادر واسمه الباركنسون حيث تمكن الطبيب المعالج من تركيب برمجة للذبذبات الكهربائية للمخ تحت الجلد وتوقفت الرعشة الرهيبة التي كانت تهز كياني كله، والحمد لله استطعتُ أن أتحرك على قدمي ولكن بقيت آثار من هذا المرض في مفصل الركبة أثر على الحركة الطبيعية، وكذلك من الآثار التي بقيت هو ثقل في اللسان أثناء الكلام والحديث.. وقد طال الحديث من صقر المرابيب أو المرببي عن معاناة أسرته كاملة من هذه المحنة التي ألمَّت به قرابة تسع سنوات، وكما يقال إن أهل المريض يتعبون ويتألمون أكثر منه وخاصة عندما يجدون مريضهم هو صاحب الدار طريح الفراش لا يستطيع حراكًا وقد سافر إلى فرنسا وغيرها على نفقة الدولة عدة مرات دون جدوى أو إحراز تقدم يذكر، وقد كان ذلك عليهم ثقيلًا أثقل من الجبال ولكنهم لم يكفُّوا من الدعاء لله تعالى ولم يقنطوا من رحمة الخالق فقد فرج الله عليهم بأن اهتدوا إلى أن يُسفّروا مريضهم إلى لبنان في بلدة جبيل العريقة بمستشفى سيدة المعونات الجامعي، وكانت الفرحة الغامرة بتوصل الأطباء في لبنان بتشخيص المرض النادر (الباركنسون) وهذه الرعشة من خلل في جهاز الذبذبات الكهربية للمخ، ونجح هؤلاء الأطباء العرب في إزالة المحنة العاتية التي هزت كيان صقر وأسرته سنوات وسنوات من العذاب وهذا بتوفيق من الله تعالى، وإنني في هذا الكتاب أحببت أن أُسجِّل قصة معاناة لهذا الأخ الصديق مع مرضٍ خطيرٍ ونادرٍ وصبرٍ طويلٍ انتهى بالفرح والسرور، وحتى تكون قصته لمن يقرأها عبرة نأخذ منها درسًا هامًا في عدم اليأس والقنوط من رحمة الله تعالى، وهنا أقول إن البلاء الذي يُبتلى به الإنسان المؤمن سواء كان مرضًا عضالًا أو مصيبة من المصائب في المال أو الولد أو الأهل لهو رحمة وغفران وكفَّارة للإنسان المؤمن وهي نعمة وليست نقمة من ربه الرحيم، ويريد الله أن يُنقِّيه كما يُنقى الثوب الأبيض بالماء والثلج والبَرَد، وأيضًا يريد أن يرفعهُ درجة عالية من درجات الجنة ما كان ليبلغها إلا بالابتلاء في حياته الدنيا وصبره على الضراء وقضاء الله وقدره.
وندعو الله جل جلاله أن يلطف بنا وسائر المؤمنين الموحدين فيما جرت به المقادير وما كتبهُ الله في لوحه المحفوظ على عباده قبل أن يخلق سمواته وأراضينه بخمسين ألف سنة كما ورد في الأحاديث النبوية الشريفة.
ونذكر هنا حديث النبي ^ عن البلاء الذي يصيب المؤمنين خاصة فقال "إن أشد الناس ابتلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل" صدق رسول الله ^. هنا نفهم من الحديث النبوي أن من أبتُلي ليس كما يظن البعض أنه مكروه أو مغضوب عليه من ربه وإلا اعتبرنا أن ما صار للأنبياء المصطفين الأخيار من بلاء وابتلاء هو غضب من الله عليهم وهذا ليس صحيحًا ولكن لكي يرفعهم درجات عن سائر الناس من بني آدم عليه السلام ويفضِّلهم تفضيلًا عن غيرهم ممن لم يصبهم بلاء وعناء من الأنبياء الآخرين وهم كُثر، وكلنا يعرف ما أصاب الخليل إبراهيم عليه السلام من بلاء رميه في النار، ثم رؤية ذبح ابنه البكر إسماعيل عليه السلام، وغربته عن أهله وعصيان أبيه وكفره وعناده له ولدعوته، وبلاء يوسف عليه السلام من رميه في الجُب (البئر) من قبل إخوته وبيعه في مصر وغربته عن أبيه وأهله وما لحقه من اتهام وإفك عظيم من امرأة العزيز في مصر ودخوله السجن ظلمًا عشر سنين، وكذلك ابتلاء موسى بهروبه في مدين وما صار له من عناد فرعون وهامان ومن تبعهما من قومهما الفاسقين ثم معاناته مع قومه بني إسرائيل سنوات طويلة بعد خروجهم من مصر، كذلك معاناة وابتلاء أيوب سنوات طويلة بالمرض وقد ضُرب به المثل عند الناس في الصبر على البلوى حتى شفاه ربه، وابتلاء زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام وقصتهم معروفة، وصالح وهود وقبلهم نوح، وأخيرًا ما ابتُلي به نبينا محمد ^ من الهجرة وحروب قومه له ولمن آمن به، كل ذلك يدل دلالة ناصعة ساطعة على أن البلاء والابتلاء هو رحمة ودرجة عظمى ليس للناس العاديين فقط ولكن للأنبياء رغم أن الله طهرهم وعصمهم، هذا ولأن الجنة محفوفة بالمكاره وهي ليست واحدة وإنما ثمان جنات عرضها السموات الأرض فوق بعضها البعض وبها مائة مقام؛ أي الجنة الواحدة بها مقامات ودرجات، وأعلى الجنان (الفردوس الأعلى) سقفها عرش الرحمن، وأعظم مقام فيها (الوسيلة والفضيلة) وهي درجة رفيعة ومقام محمود لا يناله إلا محمد ^ خاتم الأنبياء والمرسلين والمبعوث رحمة للعالمين من الثقلين (الإنس والجن)، وهكذا حكمة الخالق تبارك وتعالى من ابتلاء المؤمنين على قدر إيمانهم وصبرهم ليجازيهم بمقام عال في جنته قد أراده الله لمن اصطفاهم من خلقه وهو أعلم بسرائرهم ومطّلع على قلوبهم وضمائرهم، وكما أخبر النبي ^ عن آخر الأنبياء دخولًا إلى الجنة ومقامه أقل من أنبياء كثيرين وهو سليمان بن داوود عليهما السلام لماذا لأنه طلب من ربه مُلكًا في حياته الدنيا لا ينبغي لأحدٍ من بعده وسخر له تعالى الجن والريح والطير والحيوان وتزوج قرابة ألف امرأة كما قيل في التواريخ ونال عزًا وسؤددًا عظيمًا؛ لذلك أخذ حظًا كبيرًا عن سائر الأنبياء والمرسلين فيكون أقل منهم في الآخرة، هكذا هو العدل الإلهي حتى مع الأنبياء الذين اختارهم واصطفاهم.
ولذلك يجب أن ننظر لكل مُبتلى بمرضٍ عضال أو فقرٍ مدقع أو مصيبة أو بلوى في المال أو الأهل أو الولد لهو من ربه رحمة وغفران ودرجة عظيمة ينالها لو صبر واحتسب ولم يعترض ويتذمر على قدر الله فيه وقضاء الله له.