سلسلة لي في كل بلد تجربة فاشلة: التجربة الأولى - مشروع الخريجين

كان طريقى مختلفًا عن الآخرين .. ليس تفردًا منى فى الاختيار .. ولكن لأن قدراتى تتجه إلى مقصد آخر .. أخذته من نشأتى .. فقد نشأت فى مناخ يجيد السماع لآلام الآخرين ومعاناتهم .. من الجور والظلم والتعدى .. سواء على نطاق عام أم حتى فردى .. لا يتعدى ما خلف الأبواب .. فأصبح كل شىء فى تصورى ممتد إلى رؤية عامة .. ليس هناك تميز يستحق أن نلتفت إليه .. ما لم يكن تميزًا عامًّا .. لا يخضع لاحتكار أحد .. بل الأكثر أثرًا من ذلك .. لقد رأيت كثيرًا .. ممن يستأسد على مغلوب على أمره .. ويتحول فى لمح البصر إلى حمامة مستسلمة .. لأى حكم مغاير يصدره الأقوى منه .. والأكثر غرابة فى الأمر أنك تجد لهذا المستأسد مبررات .. يقنع الجميع بها لضرورة قبوله واستسلامه للحكم .. والذى يوجد ألف حكم أصوب منه .. لتكتشف أن القبول بالأمر محكوم بالتواجد الغالب حوله .. وأدركت مبكرًا أن الصواب كى يعم .. يجب أن يكون مهمة كل إنسان .. يدعمه بفكر .. أو قوة .. أو مناصرة .. أو حتى استحسان .. حتى يثبت فى اليقين العام أنه الطريق الوحيد لتكاتف الجميع مع الفرد .. أيًّا كان حجمه الاجتماعى أو موقعه .. تعلمت منه أيضًا أن الصدق فى الالتزام بالعدالة .. لا يجعل بينك وبين كل أدوات الصواب حائلًا للتطبيق .. لأن كل أدوات الصواب أساسًا تحرسها العدالة .. فهى الأب الشرعى لها .. هذا ما تعلمته فى طفولتى .. فى بيت كان الأب فيه يقول: «اذا لم يرتفع (هنا) صوت المغلوب فى وجه ظالمه كى ينال كامل حقه .. فلا خير فينا جميعًا .. ولا نستحق مكانتنا» .. كان هذا فى زمان لم تكن فيه المنازعات تبيت ليلة واحدة .. دون حل .. وتلك أيام لا زالت تسكننا كعمق يؤنس وجودنا. لم أكن مهتمًّا باللعب .. لم أكن مهتمًّا بالشللية .. لم أكن مهتمًّا بالحفظ .. أو متفرغًا للكتاب المدرسى. لم أستمع لنصائح أحد فى قراءاتى .. بل ربما كنت أستبعد كل ما يشير به الآخرون .. خرجت بعيدًا عن التقليدية حولى .. انفصلت بإرادتى عن كل ما يتعارض مع ميولى .. وأعطانى ذلك عزمًا جعلنى أكتشف بشكل ملموس .. تميزى عن كل من حولى .. فازددت تمسكًا بمنهجى .. وأبحرت فى كل السفن التى أتيح لى فى الحياة أن أكون فيها .. وأقصد بالسفن كل الظرفيات التى أحاطت بى وحكمت حركتى فى إطار حدودها .. كما تحكم السفينة أبعاد التجاوز التى تلزم بها راكبيها .. تلك إشارة بالغة الوضوح .. تبين تقيدنا الإرادى بإحكام مجتمعنا المغلق .. على عادات هى فى الحقيقة قواعد حاكمة .. تفرض نفسها وجوبًا .. ويتحتم على الجميع الالتزام بها .. دون تقيد بالاعتياد أو التعود .. حتى لمن يدخلون دوائر وجودنا لأول مرة .. وكل إبحاراتى معايشة كاملة .. وارتباط كامل بكل الأحداث فيها .. ومحاولات مستميتة لوضع بصمتى عليها .. فكرًا .. وجهدًا .. وإثراءً .. وتأكيدًا لصواب أتمناه .. من هنا كانت لى تجارب على المسطحين .. الجغرافى .. والزمنى .. بل وكل المسطحات الظرفية المرافقة .. ولهذا كانت .. «لى فى كل بلد تجربة .. هم يقولون فاشلة .. وأنا أقول غير ذلك» .. وأشهدكم معى حين أكتبها فى ستة أجزاء .. تحمل كل منها تجربة خاصة .. فى كل مجالات الحياة التى مررت بها .. فى العمل التجارى الدولى .. فى الأعمال المتكاملة للمقاولات .. وفى استصلاح واستزراع الأراضى .. وفى كشف وعرقلة الفساد واللصوصية المقننة بحرفية تفوق أى بعد رقابى لكشفها فى القطاع العام .. وفى العمل السياسى والحزبى .. وفى الكتابة والتأليف .. ليس هذا ارتجالًا سطحيًّا .. ولكنه إبحار فى أعماق تطبيقية غير مطروقة .. يمكن أن يصلها البعض بعد عشرات السنين .. اللذين لا يرون ولا يقتنعون إلا بواقع مجسم .. يخترق عيونهم أو حتى وجودهم .. وليس هذا استخفاف بالعقول .. ولكنه ربما هو جهد يفوق تحمل فيوزات عقول الكثيرين .. التى تعودت على ألا تستوعب كل ما تراه .. وتكتفى فقط باستيعاب كل ما تستطيعه .. ولا يستطيعون استيعابه إلا بعد اعتماله أو تطبيقه .. بفترات تتناسب مع قدرات هذه العقول على الفهم والإدراك .. ليس افتخارًا بقدراتى العقلية .. واقتداراتى على توظيف هذه القدرات .. ولكنها صرخة تبين ما يواجه شبابنا من عقبات .. وتبين أن كل البشر لديهم طاقات مثلى .. وتفوقنى اقتداراتهم فى توظيفها .. فقط افسحوا لها طريقًا تعتمل فيه .. يسعدنى أن تكون هذه الأجزاء الستة .. قريبًا بين أيديكم .. صوتًا لكل الكفاءات الساكنة فى كل النفوس .. تسمع صوتها للبشرية كلها .. لتكون عونًا لها واعترافًا بها ودعمًا لها .. حتى لا تعتمل كما اعتملت معى .. فى مناخ قاتل للأمل محطم للحلم .. مهدر للقدرات هادم للزمن بكل ما فيه من بناء أو أمل منتظر .. إننى لا أنادى أبعادًا غائبة .. ولكنى أستحضر حضورًا قائمًا .. ففى كل وقت وفى كل مكان يكون الإنسان مكتملًا بقدراته .. ومكتملًا برغباته .. مكتملًا بحرصه على النجاح .. والحضور القائم الذى استحضره .. فقط أن نكف عن مقاومة كل جديد يطل .. والذى غالبًا ما يكون مضيفًا لحياتنا عمقًا حياتيًّا أفضل .. دون أن نخشى على تقليديتنا من الزوال .. لأننا لو تمسكنا بها إلى الحد الذى يوقفنا عند حدود نشأتها الضيقة .. لحكم علينا نحن بالزوال .. وليست تقاليدنا فقط .. وفى ذات الوقت لو فطنا إلى آثارها السلبية الموقفة لكل تقدم .. والمعززة لكل مبررات التوقف .. لاستطعنا أن نستكشف بحياد عقلى .. كل ممكنات النجاح المتاح لنا .. وكل معطيات القوة فى أيدينا .. وكل طاقات الفكر الكامن فى آدائنا الممكن .. لو أتحنا له أن يعتمل .. وأدرك الجميع أن الطاقة والفكر وكل المتاح يصبح كله لا شىء .. بفقداننا الزمن الذى كان ممكنًا أن يعتمل فيه كل ذلك .. وأنه يصير إلى عدم ومخزون أدانه .. لتخلف صرنا إليه .. ولا يكون أبدًا مخزونًا يمكن أن يشكل أى صورة من صور الأرصدة الإيجابية المتراكمة .. لأن التراكم هنا أصبح بعد فقدان صلاحيته .. أكثر ضررًا من انعدام وجوده أو فقدانه .. أقول ذلك لأنه لا يوجد أحد يقبل أن يظل مستحوذًا لمهدر لم تتح له الفرصة ليعتمل مع وجوده الذى كان متاحًا بيسر .. لأن الاستحواذ هنا يكون على توقف يهين حائزه .. ويحوله إلى أضحوكة للجميع .. كمن يفقد الوجود كله .. ظنًّا منه أنه سيكون التواجد الوحيد فيه .. وهو لا يعلم أنه أفقد أول ما أفقد .. نفسه .. هذا هو المجتمع الذى تكبله تقليديته .. ويغمض عينيه اعتيادًا .. على الصمت والسلبية.