صفحات مطوية من تاريخ الشرق الأدنى القديم
تعد منطقة الشرق الأدنى القديم مهدًا للمنجزات الحضارية في التاريخ الإنساني، والتي اشتملت على مختلف أوجه الحياة ما بين الاقتصادية والثقافية والفنية والاجتماعية والدينية، وتتجلى وبوضوح بالغ هنا عبقرية تلك المنطقة من العالم القديم في تنوع تلك المنجزات بين بلدانها؛ بمعنى أن كل بقعة منها كانت تتسم بإنجاز خاص يميزها حضاريًا عن أقرانها، فمصر القديمة على سبيل المثال مع نبوغها الحضاري الشامل، فقد تميزت عن نظائرها من عالم الشرق الأدنى بقدر كبير وملحوظ من الإبداع والرقي الفني، بسائر عناصره المختلفة من نحت ونقش وعمارة، بدت مظاهره واضحة في معابدها ومقابرها وشموخ أهراماتها في تحدي الزمان ... ولذلك فقد حرصت خلال سطور كتابي هذا على إبراز ذلك التميز الحضاري وإظهاره بكل قطر من هذا الشرق القديم، فبلاد النهرين كما هو معروف عنها بكونها لا تقل في روعتها الحضارية عن مصر القديمة، غير أنها انفردت وتميزت بتراث ثقافي ضخم من نصوص عقائدية وتشريعات قانونية وأساطير تعد أقدم روائع الأدب العالمي على الإطلاق، ومثل هذا التميز الحضاري نلمسه كذلك جليًا على ساحل فينيقيا، التي أتقن أهلها وبشكل لم يدركه أحد من معاصريهم فن الملاحة وبراعة تشييدهم للأساطير الضخمة التي جابت باقتدار أعالي البحار والمحيطات، هذا وفي الوقت ذاته فقد تميز سكان جزيرة العرب هم الآخرون بكفاءاتهم التجارية، والتي بفضلها ساهموا بدور فعال ومشهود بالمصادر القديمة في الاتصال الحضاري بين بلدان ذلك الشرق الأدنى القديم، خلال طريقين متميزين بجزيرة العرب؛ أحدهما بحريًا خاض غماره أهل ديلمون ومجان والجرعاء عبر مياه الخليج العربي والمحيط الهندي، والآخر بريًا بغرب الجزيرة العربية عرف قديمًا بدرب البخور، سلكته قوافل حضارات اليمن السعيد وكندة والأنباط، محملين بالبخور الذي كان يعد قديمًا أعظم السلع العربية التي كانت تلقى ترحيبًا منقطع النظير بسائر أسواق الشرق الأدنى القديم، كضرورة أساسية لشعائر وطقوس معابد عالم الوثنية القديم.