روسيا من الشمولية للديمقراطية
إن مرحلة التحول التي مرت بها روسيا الاتحادية, في عقد التسعينات, ولدَت تحولات متوالية في الموقف السياسي في قارة اوراسيا, بدءاً من العام الأول الذي نشأت فيه روسيا الاتحادية بعد التفكك عام 1992م, وصولا إلى بداية القرن الحادي والعشرين وتمكنت الدولة، متمثلة بالحكومة وبشخص الرئيس السابق بوريس يلتسن مهندس عملية التحول الديمقراطي والرئيس فلاديمير بوتين ومن ثم خليفته ديمتري ميد فيديف, من إنهاء عملية التحول والوصول إلى مرحلة الاستقرار على الصعيدين السياسي والاقتصادي ببعديه الداخلي والخارجي , ولا ننسي اول وآخر رئيس منتخب للإتحاد السوفيتي السابق وما قدمه تجاه الديمقراطية والتحول الديمقراطي في روسيا من بروسترايكا , كانت إرهاصات تمخضت عنها بزوغ مهندس التحول الديمقراطي في اوراسيا الرئيس بوريس يلتسن وهذه عملية ديناميكية مستمرة تتحدد ملامحها في المعادلات الفاعلة في كل من النشاطات التي سبق الإشارة إليها.
ويشير واقع الحال في روسيا الاتحادية اليوم إلى أن هذه الدولة استطاعت أن ترسم لها خطاً إستراتيجياً بعد مرحلة التحول إثر تفكك الاتحاد السوفيتي, واستطاعت إقرار نظام اقتصادي يعمل وفق آليات السوق, مدعماً بنظام يعمل وفق التعددية السياسية والإثنية والدينية التي يتصف بها. وإعطاء الفرص للأحزاب للتكوين وتفعيل برامجها والاندماج مع القوي الوطنية الفاعلة الممثلة في الجمعيات الأهلية و مجتمعات المجتمع المدني النشط ومن هنا برز ت الثقافة السياسية التي تؤثر في الشارع الروسي واصبح هناك انتخابات حقيقية بدلاً من الاستفتاءات وقرارات ذات شفافية نابعة من ضمير الشعب وتعبر عن واقع الأمة الروسية بجميع اطيافها0
وأهم هدف تسعى إليه روسيا الاتحادية هو إعادة هيبتها والحفاظ على أمنها وسيادتها من أي خطر يحيط بها, وهو أمر يدفعها إلى تعزيز وضعها العسكري في المناطق الحدودية والتي تتمثل في عدة استراتيجيات أهمها :
1-الواقعية: وتتجسد هذه السمة في سعي القيادة السياسية الروسية إلى بناء سياسة براغماتية,عن طريق الابتعادعن الحجج الأيديولوجية، التي كانت تميز التحرك الدبلوماسي والسياسي السوفيتي في الماضي القريب، وإحلال محلها مبررات سياسية واقتصادية عملية أكثر وضوحا وتعبيرا عن تطلعات روسيا المستقبلية.
2- الأيديولوجية الجديدة : حيث عمد رؤساء روسيا إلى إظهار وتأكيد قطع علاقات بلادهم بالماضي الشيوعي الشمولي , والتخلي عن كافة ركائز الحرب الباردة, بما فيها الأيديولوجيات الماركسية اللينينية.
3-النهوض بالدولة ووحدتها : وتظهر الفاعلية أو الديناميكية الإستراتيجية لروسية من خلال ما يضمن بصورة جدية عدم العودة إلى الوراء منذ تواري عصر الأيديولوجيات المتصارعة على الساحة الدولية والحرب الباردة أو غياب الأيديولوجيات الشيوعية الشمولية ، حيث ظهر فلاديمير بوتين في نظر الغرب كحام للخط الاستراتيجي الجديد الذي انتهجته روسيا في عصر العولمة وحرية الأسواق, مع الإصرار على وحدة تراب الاتحاد الروسي وعدم التفريط بها, وإتباع مختلف الوسائل, بما فيها القوة العسكرية, لتأكيد هذه الوحدة0
4-اقتصاد السوق : وهي هدف جديد على السياسة الروسية, ولأجله أجاز الدستور الروسي الجديد هدف المنافسة على الأسواق العالمية محل المواجهة الأيديولوجية. لكن تحقيق هذا الهدف لا يخلو من الصعوبات, التي سرعان ما انعكست على الإستراتيجية الروسية, من خلال إعادة ترتيب الأولويات، الذي انعكس في خطط الإصلاحات البنيوية الجديدة, وحركة الانفتاح المالي والاقتصادي على الخارج. وهذا يظهر الفارق بين الإستراتيجية الروسية الحالية وما كان متبعا في الحقبة السوفيتية والنظام الشمولي ، إذ خلافا للاتحاد السوفيتي, تفضل روسيا الاتحادية، ولأسباب اقتصادية بالدرجة الأولى، إرسال المزيد من الأسلحة إلى الدول التي تستطيع دفع ثمنها. و أن بلوغ هذه الغاية يتطلب المزيد من الاستثمارات من جهة, والإصلاح البنيوي للقاعدة الصناعية الروسية لرفع مستواها التنافسي من جهة أخرى.
5– القدرة علي إتخاذ القرار وتنفيذه: وتتجسد في أن تفكك الاتحاد السوفياتي وظهور نظام دولي جديد لم يصاحبهما فرض شروط على روسيا أو على مصالحها أو على حرية حركتها أو عناصر قوتها، فوضعها الجديد لم يجعلها، على الأقل، مجبرة على الانصياع لموقف الدول الكبرى, سواء داخل مجلس الأمن ضمن منظمة الأمم المتحدة, أو خارجه ضمن توجهات النظام الدولي الجديد، الأمر الذي مكنها من القدرة على التحرك والتحدي والمعارضة لأي نمط جديد في العلاقات الدولية, وبما يتفق مع مصالحها.
6-المرونة والبعد الاستراتيجي : وتظهر من ملاحظة الاختلاف في المفاهيم بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا الاتحادية بخصوص مسألة الأمن العالمي وموقع المصالح الروسية منها. ففي حين ترى الولايات المتحدة مناطق العالم الحساسة على أنها جزء من النفوذ الغربي, وعلى الغرب تأمين الحماية اللازمة للمحافظة على الوضع السياسي القائم فيها, تؤيد روسيا الجهود الجماعية, والاقتراح الداعي إلى إشراك جميع أعضاء مجلس الأمن والأطراف المعنية لحل أي أزمة تنشب في العالم.
لذلك تعتبر روسيا أن قضية انضمام جورجيا وأوكرانيا, وحتى أذربيجان, إلى حلف شمال الأطلسي, تشكل خطرا كبيرا على أمنها القومي واستقرارها وإمكانية حركتها وتوجهاتها, سواء على المحيط القريب منها, دول الاتحاد السوفيتي السابق, أو على المحيط الأبعد, مثل الصين أو إيران أو غيرهما من الدول.
ويضاف إليها مسألة نشر الدرع الصاروخية الأميركية في بعض دول الاتحاد السوفيتي (سابقا), وتجاهل كل الدعوات الروسية لحل هذه المسألة بطريقة تزيل الشكوك الروسية من أنها هي المستهدفة من هذا المشروع. ويرى بعض القادة الروس أن مصالح روسيا الوطنية تتطلب منها السعي نحو تقديم نفسها بديلا للغرب في المنطقة العربية، إلا أن هذا المدخل ينبغي أن لا يجري في سياق المواجهة التي سادت إبان فترة الحرب الباردة.
وتعتبره شرطاً ضرورياً لدخول روسيا منطقة الشرق الأوسط، التي ما زال وجود الغرب فيها يتمتع بالتأثير الكبير، فضلاً عن ضرورة أن يكون التحرك الروسي والعلاقات القائمة مع دول هذه المنطقة مرسومين وفقاً للأهداف والمصالح الروسية، وانطلاقاً من المميزات التي تتمتع بها هذه الدول.
و تستند الإستراتيجية الروسية حيال المنطقة العربية، لسعي إلى تحقيق الأمن للحدود الجنوبية في وجه التهديدات التي تقع نتيجة فشل روسيا والدول المستقلة في إيجاد مؤسسات ذات كفاءة ورقابة على استخدام القوة, وذلك من خلال العمل على وضع حد للنزاعات والصراعات المنتشرة على مقربة من حدودها, ولا سيما النزاعات ذات المشاعر الإسلامية, حيث يشعر القادة الروس بأن جيرانهم المسلمين ما زالوا غير قادرين على خلق دولة قابلة للحياة, وأنه ينبغي لروسيا أن تأخذ الدور على عاتقها من أجل ترتيب الأوضاع السياسية في المناطق المحاذية لها بشكل لا يهدد أمنها. وإن دخول روسيا المنطقة من جديد هو سياسة وقائية لمنع الاندفاع الإسلامي, أو مواجهة ما يوصف بالتهديد الإسلامي الشامل, حيث تسعى إلى وجود نظام إقليمي مستقر قرب حدودها. وترى روسيا أن إعادة تأكيد مصلحتها الوطنية في إيجاد النظام المستقر أصبحت أكثر إلحاحا من أجل الوقوف في وجه التحديات الخارجية.
إذا ما أخذنا الحالة الواقعية لروسيا بعد تولي فلاديمير بوتين الرئاسة، فإنه يمكننا القول إنه استلم السلطة في روسيا وهي تعيش في حالة من عدم استقرار سياسي، فكثيرا ما سمعنا عن تغير الحكومات في ظل الرئيس الأسبق يلتسن، فضلا عن المحاولات الانفصالية لبعض الجمهوريات التابعة للاتحاد الروسي، يزيد على ذلك أزمة اقتصادية تمثلت في أحلك صورة ألا وهي أزمة آب/ أغسطس 1998م. ولعل هذه المشاكل تعود في الأصل إلى تراكمات مشاكل العهد السوفيتي الذي آل به في النهاية إلى التفكك والاندثار، فضلا عن طبيعة توجهات القادة الروس بعد الاستقلال واندفاعهم نحو الولايات المتحدة الأمريكية والغرب ظنا منهم أن مثل هكذا توجه سيعود على روسيا بالمساعدات والدعم الاقتصادي، وهي مشاكل وعتها روسيا في الفترة الثانية من رئاسة يلتسن، وبدأت بمحاولة علاجها بطريقة منطقية، إلا أن الحالة الصحية المتردية بين الفينة والأخرى للرئيس الأسبق يلتسن، وما أشيع عن حبه لتعاطي المسكرات، حال دون تحقيق المستوى المطلوب من الإصلاحات التي تخدم الواقع الروسي.
إذن، إن صح التعبير يمكننا القول إن فلاديمير بوتين استلم روسيا، وهي في حالة انتقالية غير مستقرة تماما، وهو ما استلزم منه انتهاج خط وطني صارم. وبالفعل، نجح إلى حد كبير في وقف التدهور والتخبط الذي عانتهما روسيا في حقبة التسعينيات. واستطاع تكوين إدارة قوية لحكم روسيا، وبدلا من تراجع دور روسيا دوليا عادت تلعب دورا مؤثرا "نوعا ما"، وظهر حضور موسكو في عدة ملفات مهمة تعارض فيها الموقف الغربي، مثل ملف كوسوفو، وملف البرنامج النووي الإيراني، فضلا عن التوجهات الروسية في المنطقة العربية، وبالذات نشير هنا إلى العلاقات الروسية - السورية، فضلا عن العلاقات مع ليبيا ولبنان ومصر والعربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، حتى إن مجلة التايمز (عند اختيارها بوتين أبرز شخصية لعام 2007م) وصفت قيادته لروسيا (بالقيادة الناجحة في فرض الاستقرار على أمة لم تعرف الاستقرار لحقب طويلة، ونجحت بإعادة روسيا كقوة لها تأثيرها في الساحة الدولية). وبقي التحدي الأساسي أمامه هو الإبقاء على استقرار هذه الدولة، وعلى ما حققه من نتائج طيبة بعد انتهاء فترة رئاسته الثانية، رافضا في الوقت نفسه إجراء تعديلات على الدستور بالشكل الذي يسمح له بالبقاء في سدة الحكم.وقد حسمت الانتخابات الروسية التي جرت في الثاني من آذار/ مارس 2008م النتيجة لصالح ديمتري مدفيديف، مرشح حزب الوحدة، والمدعوم من قبل فلاديمير بوتين، بفارق كبير عن أي متنافس آخر.إلا أن التساؤلات والمجادلات ما زالت قائمة حول من سيكون الحاكم الفعلي لسياسة روسيا الداخلية والخارجية، ولا سيما مع قبول بوتين تسلم مهام رئاسة الوزراء وإبقائه لعدد من الوزراء المخضرمين، أمثال وزراء الدفاع والخارجية والمالية، وهو أمر، إن دل على شيء، فهو يدل على استمرار نهج السياسة التي كانت متبعة عندما كان بوتين رئيسا للبلاد.
إن نجاح بوتين في تعزيز الوضع الروسي، داخليا وخارجيا، هون على الرئيس الجديد العديد من المشكلات، حيث تسلم مقاليد الحكم في روسيا، وهي دولة ناهضة حرة الإرادة وغير مكبلة بالديون، ولا ترزح تحت نير مشاكل الاتحاد السوفيتي التي ورثتها عنه، وهي دولة في وضع غير الوضع الذي كانت عليه عندما استلم الحكم فيها بوتين. إن هذا الأمر، وان هون على ديمتري مدفيديف، إلا أنه سيزيد العبء والمسؤولية عليه، فأي خطأ في الحسابات سوف يكلفه الكثير لأن المقارنة ستكون حاضرة لا محالة بينه وبين الرئيس السابق بوتين. ولكي يثبت الرئيس الروسي الجديد نجاحه، عليه إعادة تقييم الدور السياسي لروسيا وكيفية تطويره بشكل مؤثر وفعال، وذلك من خلال تحديد تصورات هذا الدور بالاعتماد على مقومات ومقدرات هذا الدور الروسي وحدوده... وإن النجاح أو الفشل يعتمد بدرجة أو بأخرى على مدى إدراك صانع القرار الروسي للطريق المطلوب أخذه في هذه المرحلة.
إن التحديات التي تواجهها فترة الرئيس مدفيديف، الداخلية والإقليمية والدولية، تهم مصالح روسيا الإستراتيجية، وتقتضي معالجتها الكثير من الحنكة السياسية، وتتمثل تلك التحديات بتعزيز البناء الداخلي لروسيا وتحديثها، وإشاعة أجواء الاستقرار، وتنمية الاقتصاد الروسي وتعزيز قدرته الشاملة، وتعظيم النفوذ الروسي على الساحة الدولية، وحماية المصالح الروسية قدر المستطاع، وفي الوقت ذاته السعي إلى خلق فرص للتعاون مع الغرب، على الرغم من الخلافات القائمة بينهما0