الاميرة الملكة اجدابيا فى الحقبة الملكية
هنا اجدابيا !..
قليلة هي المدن التي خصّها التاريخ والجغرافيا بصفحات مشرقة أفردها لها دون غيرها.. فدخلت من أوسع أبواب الذاكرة..وظلّتْ تحتفظ بذلك المكان الأثير ولم تسقط من ثقوب الذاكرة على مرّ الزمان..
واجدابيا..هذه المدينة العلم..كالبيت القديم..رمز العراقة والأصالة، نشعر دومًا بالحنين إليه، ونسعى دومًا إلى ترميمه والمحافظة عليه..كالبيت القديم، تقف هذه المدينة لتدلي بشهادة مساهمتها في إثراء الوجدان الليبي، وتقدم أوراقها الثبوتية ووثائقها التاريخية الموغلة في التاريخ والجغرافيا..نالت بكل جدارة واستحقاق ألقابًا كثيرة..لعلّ في مقدمتها أنها عنوان أصالة ومسيرة حضارية عظيمة، مرورًا بلقب مدينة المثقفين الذي خلعته الصحافة الليبية خلال سبعينيات القرن الماضي..وعاصمة الجهاد، ثم عاصمة الشعر الشعبي.. حتى آخر ألقابها (مدينة الشمس).
هنا اجدابيا..بلدة صغيرة وادعة بين كثبان الرمال الساحرة..البشرُ فيها دافئون..الودّ منبثُّ في حواريها الحانية..أين منها هذه العلب الزجاجية الشاهقة الخاوية من تلك الأبنية الوارفة المنخفضة التي لا تعلو على ساكنيها بالفخامة، بل تنفذ إليهم بالدفء..تحوّله إلى ألفة محبّبة لا تستثني أحدًا..تحفّزُ الضوءَ والأنسَ بينهم فيغمرَ الجميع..هنا ينقشع الغمام على القمر، فلا تشوب وجهَه شائبة..يقذف بحزم ضوئه الباهرة فتنكسي الشوارع والحواري المؤدية إليها تلألؤٌ فضيٌّ.. وليست مدينةً للشهوة، طرقات شوارعها زرقاء وحمراء وخضراء، لا يلتفت إليها غيرُ قمر غجريِّ يتثاءب أبدًا بين الغيوم..هنا البِشرُ والبراءةُ تطفح على تقاسيم الوجوه التي لا يملكون غيرها..
هنا اجدابيا..هنا سكونٌ هادئٌ حميم أنيس..لا شبكةُ ضوضاء تلف الأمكنة..ووجوهٌ متربة ملأى بالتعابير المبهمة..مجهولة لا يعرفها أحد..تظهر وتختفي مثل أشباح..مصابةٌ بداء الاستفهام..
هنا اجدابيا..هنا عِفةٌ صادقة يشعّ منها الطهر والعفوية.. ليست مثل غيرها من الأمكنة، حيث تتبعثر الفوضى وينتشر المجون ويتكاثر الفجور وتتوالد الغربة الخانقة في أوكار الشهوة..
هنا اجدابيا..هنا ليلٌ ناعمٌ حنون، آمِن يتجوّل في الأفئدة ويتغلغل في كل الوجوه..وليس ليلاً فاجرًا موحشًا يفترس الأرواحَ والأجساد.
وقد أسعدني جدًا أن شرفني صديقي الأستاذ طاهر احشيشة بتقديم هذا الكتاب الذي أعدّه إضافة مهمة لمكتبة ننتظرها عن هذه المدينة العريقة..وفي اعتقادي أن كلّ حرف يكتب عن هذه المدينة يضيف مأثرةً جديدة عن هذه المدينة..وهل ثمة شرف أن يذكرها (ياقوت الحموي) في سفره العظيم (معجم البلدان) بجوار البلدان العظيمة التي زارها ونوّه بها في معجمه الأشهر.. وهل ثمة عظمة حين تُذكر اجدابيا في سفر واحد مع مكة المكرمة أم القرى ومدينة الرسول ^، أو حين يذكر القدس الشريف ومدن الشام العريقة وبغداد عاصمة الدنيا في زمنها الجميل، أو مراكش والقيروان..حتى الجغرافيون والرحالة العرب والأجانب لم يستطيعوا إغفالها من كتاباتهم حين زاروا المدن المهمة في ليبيا..فلم يخلُ كتابٌ من ذكر اجدابيا العظيمة ربيبة التاريخ والجغرافيا..
لكن ما شدّني في ما كتب طاهر احشيشة عنها أنني وجدتُ ذلك الحبّ العظيم الذي يخبئه لمدينته..ففاح عطر ذلك الحب في كل حرف من حروف كتابه..وهو تحيّز واضح لها.. لكنه تحيّز محمود من كاتب عشق المدينة وتعرف على كل حجر منها ونقّب في تاريخها الاجتماعي والسياسي، واستنطق كل ما يمكن استنطاقه عن تاريخ هذه المدينة..فالتاريخ لم يعد تاريخ الساسة وصناعها وزعمائها وجالبي انتصاراتها..بل كما يقول أحد فلاسفة التاريخ (جون توش) هو تاريخ المدن وما يحتدم فيها من تفاصيل يومية حميمة..وهذا ما فعله صديقي طاهر احشيشة..الأمر الذي جعله أحيانًا يدير ظهره للأسلوب الأكاديمي الجاف وينطلق على سجيته وهو يؤرخ لتفاصيل الحياة في هذه المدينة في العصر الحديث الذي عاشه كشاهد عيان بعين لاقطة لا تغفل شيئًا ولا تترك شيئًا للاستفسار..
ولا أخفي أن الخطة كانت تصفُّحًا سريعًا لهذا المخطوط..قراءة سريعة بقدر ما يتيحه لي وقتي ومشاغلي، ثم أكتب تقديمًا تقليديًا كمثل ما يحدث في مثل هذه المخطوطات الضخمة.. لكن هذا التصفّح تحول ومنذ أول صفحة إلى (تفحّص!)..شمل كل حرف وكل اسم وكل شارع، وتمعّن في كل صورة وهامش صغير دقيق في أسفل الصفحة.. وطوال الوقت الذي قضيته في الإبحار في حروف وكلمات طاهر احشيشة لم تغب عني تلك الابتسامة العذبة التي يستقبل بها كل كائنات الدنيا..ابتسامة تخرج ولا تعود!!..فجاء الكتاب مبتسمًا مثل صاحبه..تعلوه حبيبات التاريخ والجغرافيا..مزيّنًا بالحب الذي راهن عليه طاهر احشيشة..
هنا اجدابيا.. بطعم طاهر احشيشة الأكاديمي الباحث ابن اجدابيا التي تسكنه..!