أيامي مع الرمال

إننى لا أكتب تاريخًا .. ولا أؤرخ لأحداث عسكرية أو أقيِّم أداءً ميدانيًّا فتلك مهمة لا أستطيعها .. لأنى لا أملك الإلمام بمفرداتها أو ملابساتها .. لأنها خطط عسكرية بالغة الدقة .. مسبقة الإعداد .. أو وليدة تقدير محسوب لموقف أو مواقف استجدت .. استدعت تدخل الفكر العسكرى بكل إعداداته .. المتوقعة مسبقًا .. أو التى تقرر لحظيًّا بموجب الرؤية المتكاملة للموقف العام لمثل تلك الأحداث .. فكل شيء فى المعركة كانت القيادة ممسكة به بتمكن .. ومن هنا فأنا فرد فى وطن كله فى المعركة .. لا أستطيع أن أرى الصواب إلا من خلال محصلات النتائج المعلنة .. والتى يراها معى الجميع .. إننى أسجل كما قلت مرارًا .. أبعادًا إنسانية عايشتها كفرد .. وكشاهد عيان شرفنى الوطن .. بأن أكون فى دائرة هذا الحدث التاريخى العظيم .. وسوف أضع فى صفحات من كتابى هذا .. بعض المواقف الإنسانية الطريفة .. والتى لا تتصل من قريب أو بعيد بالعمليات العسكرية .. ولكنها تتصل بالحالة المعنوية السائدة .. والتى تكشف للدنيا كلها مدى قدرة هذا الشعب .. على التواؤم فى كل الظروف .. لتكون مصر دائمًا - مهما كانت الظرفيات - هى مصر فى كل حين .. كانت ضحكاتنا تعلو .. ولكن لا تنسينا المسئولية وقوة الإرادة .. وكانت دموعنا تنهمر .. ولكن لا تهدم ذرة واحدة من عزمنا .. كنَّا نحرص على سويتنا .. لنحقق التوازن الإنسانى لأنفسنا .. والذى يجعلنا أقدر على التصرف الصحيح .. فقد تغير لدينا مفهوم البسالة .. وأصبحنا نؤمن بضرورة الاستبسال مرتين .. مرة لنهزم العدو وندمر قوته .. ومرة كى لا نمكنه من الإضرار بنا .. وأن الاستشهاد فى أداء المهمة .. هو بسالة واحدة .. أما العودة سالمًا بعد أداء المهمة هى استبسال مزدوج .. لأنك تعود منها لمهمة ثانية وثالثة .. تضاعف خسائر العدو .. وكان شعارنا .. استبسل مرتين كى تعيش ليس فى حياتك فقط ولكن فى كل مهمة توكل إليك  .. كانت مصر بكل أبنائها بلا استثناء .. قوية داخلها لا تستطيع أن تهزم روحها الشدائد .. ولا ترتد أبدًا مهزومة إلى ركن مظلم .. ولكنها تبتسم دائمًا لمستقبلها وقدراتها الخافية فيها .. والتى تكتفى منها بالحد الذى يحمى وطنها .. دون أن تعتدى على شبر واحد خارج حدودها .. ودائمًا لديها خطة ناجحة وعزم شديد .. فى تحقيق كل ذلك والوصول إليه .. ولا أستطيع أن أصل إلى هذه الأبعاد .. إلا بنقل الصورة العامة التى كانت تعايش كل تلك الأحداث .. وردود الأفعال من كل القوى المعتملة فيها .. ومن زاوية رؤيتى المحدودة بموقعى .. وكواحد من مئات الألوف من أبناء مصر المشاركين فى كل مراحل الدفاع حتى العبور .. إنها مشاركة متواضعة فى إثراء حدث تاريخى .. شهدته مصر .. وشهده لها العالم كله .. وأثبت استحقاقها الدائم لوجودها المتميز .. عبر كل التاريخ .. إنها قراءة لبعض ما كتبته رمال مصر فى نفوس أبنائها.