صفحات مطوية من تاريخ حضارات اليمن السعيد ونجد في ضوء النقوش المسندية

تميزت منطقة الشرق الأدنى بصفة عامة بين أنحاء العالم القديم لكونها المهد الأول للحضارات الإنسانية، وفوق أرضها الطيبة نبعت المعرفة بالكتابة والتدوين مع مطلع الألف الثالث ق.م بكل من مصر وبلاد النهرين في آن واحد تقريبا، ثم إلى بقية جهات الشرق الأدنى القديم فيما بعد بما فيهم شبه الجزيرة العربية، التي ابتكر أهلها كتابة خاصة بهم انتشترت بعمعظم أنحائها وقد عرفت بالكتابة المسندية، وهي تسمية مشتقة من اللفظة اليمينة القديمة (مسند م س ن د )، التي تعني النقش الكتابي المدون على حجر أو غيره، بينما فسر الأخباريون المسلمون تلك التسمية على أنها تعود إلى أن معظم تلك الكتابة تبدو في هيئتها وكأنها خطوط مستقيمة مسندة الشكل، وعامة فإنه بمجرد نجاح المؤرخين في حل رموز تلك الكتابة انسدلت حجباً كثيفة من الغموض عن تاريخ وحياة معظم شعوب وقبائل جزيرة العرب القدامى، والتي كانت تقتصر مصادر تأريخهم على إشارات من القرآن الكريم والعهد القديم وعلى ما ورد ببعض النقوش المصرية والبابلية والأشورية، وكذلك ما جاء بكتابات المؤرخين والجغرافيين الكيلاسكين، وما تناولته أيضاً أقلام الإخباريين المسلمين الذين اختلطت كتابتهم في هذا الشأن بالكثير من المبالغات والخرافات اختلاطاً كبيراً ، كل ذلك في ظل قلة وندرة التنقيبات الأثرية التي كانت ولا تزال تلك المنطقة في حاجة ملحة إليها، والتي تعوقها دون شك وعورة تضاريسها.

وتعد في هذا الصدد كل من بلاد اليمن السعيد وأرض نجد أهم جهات شبه الجزيرة  العربية، التي ينسب للنقوش المسندية الدور الأكبر في الكشف عن معالم تاريخهما القديم، والذي كانت الأساطير تحفهم من كل جانب، وذلك بفضل ما أمدت به تلك النقوش المؤرخين من حقائق وفيرة ومعتبرة، تتجلى في ما ورد من معلومات نقشية أزاحت  اللثام عن أخطر التهديدات الخارجية لبلاد اليمن وأرض نجد، والكامن في المنطقة الأولى ذلك التهديد الأكسومي المتسلط بصفة دائمة على بلاد العرب السعيد لابتلاع ثرواتها الناجمة عن ثرائها التجاري المزدهر في تجارة البخور، التي كانت تجد ترحيباً منقطعاً النظير بسائر أسواق العالم القديم على الإطلاق، وقد استغل الأكسوميون في ذلك وجودهم العسكري القديم بالساحل اليميني المقابل لبلادهم، وذلك طبقاً لما جاء بنقش جعزي عثر عليه في الميناء الأكسومي الشهير "أدوليس"، وقد تصدى ملوك دولة سبأء وزريدان بقوة لهذا الخطر المدمر، وذلك طبقاً لما ورد بالنقوش المسندية التي استهلت في تلك الدراسة بجهود "شعر أوتر  شعر أوتر" الذي أول من تلقب بــ "ملك سبأ وزريدان"، والذي حاول منع التوغل الأكسومي في بلاده عبر حروب عديدة خاضها معهم، غير أن الجهد الأكبر والمضني يرجع طبقاً لما ورد بالكثير من النقوش المسندية إلى "أيل شرح يحضب   أيلشرح/ يحضب" ملك سبأ وزريدان، الذي لقنهم هزائم ساحقة ومتلاحقة أوقفت خطرهم وتهديداتهم لفترة طويلة عن بلاد اليمن، التي شهدت على أثر ذلك طفرة سياسية غير مسبوقة في تاريخها القديم، تمثلت بالربع الأخير من القرن الثالث الميلادي حينما تمكن " شمر يهرعش  شمر /يهرعش"، من توحيد المملك اليمنية المتناثرة تحت لواء دولة حمير الموحدة، ولكن مع ضعف تلك الدولة الحميرية في عهد أخر ملوكها "يوسف أسأر يثأر  يوسف/ أسأر/ يثأر" (518-525م) عاد تهديد الأكسوميون بقوة لبلاد اليمين طبقاً لما ورد بالنقوش المسندية، مستغلين ذلك مدى الوهن الكبير الذي أصاب دولة الحميريين وما شهدته من صراعات دامية بين اليهودية والمسيحية في عهد هذا الملك الآخير، حتى تمكنوا بالفعل عام 525م من الاستيلاء على بلاد اليمين.

وقد أبرزت النقوش المسندية وبجلاء بالغ خلال الأحداث السالفة، مدى أهمية مدينة نجران ودورها الكبير في تلك التهديدات الأكسومية المتاولية عليها بصفة خاصة، ويرجع ذلك بلا شك إلى تحكمها في حركة تجارة قوافل البخور الواردة إليها من اليمين، حيث تترفع عند هذه المدينة طرق تلك القوافل إلى اتجاهين رئيسيين؛ إحدهما يتوجه شمالاً نحو البتراء عاصمة الأنباط، بينما يتوجه الأخر إلى مدينة الجرعاء بساحل الخليج العربي، مرورا بمدينة "قرية ذات كهل قرية /ذت كهل" عاصمة مملكة كندة القديمة بنجد، والتي لهذا السبب كما تشير النقوش المسندية قد ارتبطت في تاريخها بعلاقات وثيقة مع الحضارات اليمينة، التي حرص ملوكها على توطيد هذه العلاقات وتدعيمها مع تلك المملكة النجدية.