منهج البحث في لغة القرآن الكريم
ظلَّ النصُّ القُرْآنيُّ، مُنْذُ نَزَلَ وَحْياً على رَسولِ الأُمّةِ، ونَبِيِّها الكَريم، إلى يَومِ النّاسِ هذا، مَدارَ اهْتِمامٍ كبيرٍ، وعِنايةٍ مُنقَطِعةِ النَّظيرِ، لَيْسَ مِنْ قِبَل المُسْلمين وَحْدَهم، وإنّما، أيضًا، من قِبَلِ غيرِهم مِنْ أَهْلِ المِلَل والدِّياناتِ الأُخْرى الذينَ كانَتْ لَهُمْ بِدَوْرِهِم، اهْتِماماتٌ واسعةً بِهذا الكِتابِ العَزيز، بدوافِعَ مُخْتَلِفة، فتَناوَلوهُ بالدَّرْسِ، والبَحْثِ، مِنْ جَوانِبِهِ المُتَعدِّدةِ بأَدَواتِ بحثٍ ومَناهِجَ في القِراءةِ والتَّأْويلِ قَديمةٍ وحَديثة. أمّا المُسْلمونَ فَقَدْ بذَلوا في الاحْتِفاءِ به ما هو مَعْروفٌ للجَميع. فأَمْعَنوا النَّظَرَ، ودَقَّقوا فيهِ حَرْفاً حَرْفاً، لَفْظاً ومَعنىً، شَكْلًا ومَضْمونًا، نُطْقًا ورَسْمًا، أُسْلوبًا ونَظْمًا، تَحْليلًا وتَركيبًا، حِفْظًا وتَرْتيلًا، تَجْويدًا وأَداءً، لُغةً وإعْرابًا، تَفْسيرًا وتَأْويلًا، واسْتَنْبَطوا مِنْهُ أَساليبَ الكلامِ، وقَواعِدَ الأَحْكام ... قَلَّبُوه على كلِّ وُجوهِهِ ظاهِرًا وباطِنًا، وتَناوَلُوهُ مِنْ كُلِّ جِهاتِهِ ومَداخِلِه، وأَتَوا إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ أَبْوابِهِ ونَواحيه، وسَخَّروا لِفَهْمِه كُلَّ العُقولِ والأَنْظار، وما وَصَلتْ إِلَيْهِ مَدارِكُهُم مِنْ تَدَبُّرٍ وتَفكُّرٍ، لم يَبْخَلوا عَلَيْهِ بِشَيْءٍ. فكانَ مَجْموعُ ما تَرَكوهُ لنا في هَذا المَوْضوعِ المُتَّسِعِ المُتَشَعِّبِ مِنْ تُراثٍ غَزيرِ، شَيْئًا عَظيمًا لَمْ تَحْظَ به أُمّةٌ أُخْرى في مِقْدارِ اعْتِزازِها واهْتِمامِها بكِتابٍ مِنْ هذا المَقامِ الرَّفيع. ويَكْفينا أَنْ نُذَكِّرَ اليَوْمَ بِحَقيقةٍ مَعْروفةٍ وهِيَ أَنَّ العِنايةَ بهذا النَّصِّ هِي التي كانَتْ وَراءَ نَشْأةِ كُلِّ العُلومِ العَرَبِيَّةِ الإِسْلامِيَّةِ الأَصيلَةِ غَيْرِ المَنْقولةِ، أو المُسْتَعارَة، كعُلومِ القُرْآنِ والحَديثِ بفُروعِها، والفِقْهِ، والأُصولِ، والكَلامِ، والعَقيدةِ، والسِّيرةِ، والتّاريخِ والجُغْرافيّة، والأَدَبِ، والبَلاغَة، وجَمْعِ أَشْعارِ العَرَبِ، وتَدْوينِ كَلامِها ولُغَتِها، وتَقْعيدِ قَواعِدِ النَّحْوِ والصَّرْف، والتَّأْليفِ المُعْجَمِيِّ، والدَّلاليّ، والاشْتِقاقيّ، وكُلِّ ما له عَلاقةٌ بِذلك مِنْ قَريبٍ، أو بَعِيد. أمّا العُلومُ الأُخْرى التي اسْتُعيرتْ شَتائِلُها، وبُذُورُها مِنْ حَضاراتٍ أُخْرى؛ كالفَلْسَفَةِ، والمَنْطِقِ، والفَلَكِ والتَّنْجيمِ، والطَّبيعةِ، والحِسابِ، والهَنْدَسةِ، والطِّبِّ، والصَّيْدَلةِ، والكِيمياءِ وغَيْرها، فما لَبِثَ المُسْلِمون أَيْضًا، بَعْدَ هَضْمِها، واسْتيعابِها، واسْتِنْباتِها في بِيئَتِهِم الثَّقافِيَّة، أَنْ سَخَّروها بدَوْرِها، ووَجَّهوا كَثيرًا مِنْها لخِدْمةِ القُرْآنِ، والعُلومِ الإِسْلامِيَّةِ بصِفَةٍ عامّة. وبِذلك أَصْبَحَ النَّصُّ القُرْآنيُّ في نِهايةِ الأَمْرِ مَرْكَزَ الثِّقلِ، ونُقْطةَ الجَذْب، وقُطْبَ الرَّحى الذي تَدورُ حَوْلَهُ الثَّقافةُ الإِسْلامِيَّةُ في مُخْتَلِفِ تَجَلِّياتِها، والبَحْرَ العَظيمَ الذي تَصُبُّ فيهِ كُلُّ أَنْهارِ العُلومِ، والمَعارِفِ، وجَداولُها مَهْما تَباعَدَتِ المَسافاتُ الظّاهرةُ بَيْنَ مَنابِعِها وتَخصُّصاتِها، واهْتِماماتِها.
ولَكِنَّ القُرْآن، رَغْمَ كُلِّ ما بُنِيَ عَلَيْه، وكُتِبَ حَوْلَهُ مِنْ دِراساتٍ طيلةَ القُرونِ الماضِية، ظلَّ نَصًّا جَديدًا، وجَذّابًا، ومُغْرِيًا باسْتِمْرار، وما زالَ الباحِثونَ، والدّارسونَ مِنْ كُلِّ الاتِّجاهاتِ يَجِدون في عُمْقِهِ أَعْماقاً أُخْرى ومَسافاتٍ شاسِعةً تَحُثُّهم، وتُشَجِّعُهم عَلى المَزيدِ مِنَ الإِبحار والاستِكشاف وإعادة النظر بعد النظَر كلما تقدَّمت العلومُ البشرية وتَجَدَّدت العُقولُ والفُهُوم. وقَدْ رَأَيْنا كَيْفَ أَنَّ الطُّرُقَ، والمَنَاهِجَ في تَناوُلِ هَذا النَّصِّ الفَريدِ المُتَمَيِّز قَدْ تَعَدَّدَت وتَنَوَّعَتْ عَبْرَ العُصور، فاسْتَوْعَبَت، أو كادَت، كُلَّ الاتِّجاهاتِ كَيْفَما كانَت: دِينِيّةً، أَم عَقْلِيّةً، فَلْسَفِيّةً مَذْهَبِيّة، أَمْ رُوحانِيةً باطِنِيَّةً تَأْويلِيَّةً، أَمْ مادِّيَّةً ظاهِريَّة. ولَكِنّ المُحْدَثينَ والمُعاصِرين، مِنْ مُسْلِمين وغَيْرِهم، لَمْ يَكْتَفوا بذَلِك التُّراثِ الضَّخْمِ الذي تَراكَمَ عَبْرَ التّاريخِ في هَذا المَجَال، رَغْمَ ما فِيهِ مِنَ الغِنَى والعُمقِ، والاتِّساعِ والتَّنَوُّع، وإنَّما أَضافُوا، أَيْضًا، مُحاوَلاتِهم الخاصّةَ التي أَرَادوا بِها اسْتِثْمارَ نَتائِجِ مَعارِفِهم الجَديدَة، ووَجَدوا، في ذلِك، فُرْصةً لإعَادةِ قِراءَةِ النَّصِّ نَفْسِهِ وما كُتِبَ حَوْلَهُ، أَيْضًا، في العُصورِ السَّابِقة، في ضَوْءِ ما حَصَلَ مِنْ تَطَوُّرٍ كَبيرٍ في مُخْتَلَفِ مَيادِينِ العُلومِ، والمَناهِجِ، والمَفاهِيمِ الفِكْرِيَّة. إِنّ الكُشوفَ الحَدِيثَة، نَظَرِيَّةً كانَتْ، أَمْ تَطْبِيقِيَّة، في عُلُومِ الحَياةِ، والطَّبِيعةِ، والفِيزْياءِ، والرِّياضِياتِ، والطِّبِّ، والتَّشْريح، والفلَكِ، والفَضاءِ، وطَبَقاتِ الأَرْضِ، وتَكْوينِ الكَوْنِ وتاريخِ البَشَرِيَّة، مَثَلًا، قَدْ أَصْبَحَتْ تُلْهِمُ المُهْتَمِّين بالدِّراساتِ القُرْآنِيَّةِ وتُزوِّدُهم بأَفْكارٍ تَدْعوهم لإِعادَةِ التَّدَبُّرِ، والتَّأَمُّلِ في آياتِ القُرْآنِ ونُصُوصِهِ وأَلْفاظِهِ، وتَراكِيبِهِ مُسْتَنيرينَ بالحَقائِقِ، والمُسَلَّماتِ الجَديدَةِ التي أَثبَتَها العِلْمُ الحَديثُ، ولَمْ تَكُنِ العُقولُ السَّابِقةُ قادِرَةً على فَهْمِها، واسْتِيعابِها. وفي هَذا الإِطارِ ظَهَرَ ذَلِك التَّيّارُ البارِزُ، مِنْ بَيْنِ تَيّاراتٍ أُخْرى كَثيرة، الذي أَصْبَحَ شَغُوفًا بالبَحْثِ عَمّا يَتَوافَقُ في النَّصِّ القُرْآنيِّ مَعَ الظَّواهِرِ، والحَقائِقِ التي أَثْبَتَها، وأَقرَّها العِلْمُ الحَديث، فأَصْبَحَ يَعْمَلُ تَحْتَ عُنْوانٍ جَذّابٍ؛ وهُوَ: «الإعْجازُ العِلْمِيُّ في القُرْآن». وكَذَلِك كانَ الشَّأْنُ معَ تقدُّمِ البَحْثِ في مَجالاتٍ أُخْرى؛ كعُلُومِ الاجْتِماعِ، والأَدَبِ، والتّاريخِ، والفَلْسَفَةِ، والدِّياناتِ المُقارِنة، واللُّغَةِ بفُروعِها القَديمَةِ، والحَديثَةِ، الدَّاخِلِيَّةِ، والخارِجِيَّة، ولاسِيَّما الأُسْلوبِيّةُ، والدَّلالَةُ، والمُصْطَلَحُ، والتَّداوُلِيّاتُ، وتَحْليلُ الخِطابِ، والهِرْمِنُوطيقا، أَوْ تَأْويلُ النُّصوصِ، والمُناظَرَةِ والحِجاج ... لَقَدْ فتَحَتْ مِثْلُ هَذِهِ الفُروعِ العِلْمِيَّةِ الجَديدَةِ آفاقاً أُخْرى أَمامَ الدَّارِسينَ، وزَوايا للنَّظَرِ، ومَداخِلَ للبَحْثِ لَمْ تَكُنْ واضِحَةً، أَوْ مُمْكِنةً مِنْ قَبْل.
في هَذا السِّياقِ العامِّ، إِذَنْ، تَأْتي مَباحِثُ هَذا الكِتابِ الذي يُسْعِدُني أَنْ أُقَدِّمَهُ، اليَوْمَ، لجُمْهورِ القُرّاءِ الكِرام. فهُوَ يَنْدَرِجُ، بِلا شَكٍّ، ضِمْنَ الكِتاباتِ الحَدِيثةِ التي وجَدَ أَصْحابُها في مُعْطَياتِ التَّطوُّرِ العِلْمِيِّ المُعاصِرِ وما صاحَبَها مِنْ آلِياتِ بَحْثٍ، ومَناهِجَ قِرائِيَّةٍ مُسْتَحْدَثة، ما يُوفِّرُ لَهُم باسْتِمْرارٍ مَداخلَ، وأَدَواتٍ جَديدَةٍ، لإِعادَةِ البَحْثِ في نَصِّ القُرْآنِ الكَريمِ مِنَ الجَوانِبِ التي تَخُصُّهم، وتَعْميقِ فَهْمِهِ، وتَحْليلِهِ بِغايَةِ الوُصولِ إِلى نَتائِجَ لَمْ تَكُنْ مُتاحَةً مِنْ قَبْلُ.
وقَدْ حاوَلَ الأُسْتاذُ نَصْرُ الدِّينِ وَهّابي في المَباحِثِ الثَّلاثَةِ مِنْ كِتابِهِ هَذا، أَنْ يُقَدّمَ لقَارِئِه، مِنْ بابِ ما جَدَّ في تَحْليلِ الخِطابِ، والدِّراساتِ النَّصِّيَّةِ، والسِّياقِيَّةِ، والمُصْطَلَحِيَّةِ، وتَكامُلِ المَعْرِفَةِ، وتَداخُلِ العُلُوم، عَرْضًا لمَسائِلَ، وتَصْحيحًا لِمداخِلَ رَأَى مِنْ وِجْهةِ نَظَرِه، ونَظَرِ المَناهِجِ التَّحْلِيلِيَّةِ المُعاصِرة، أَنَّها لَمْ تَكُنْ تُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الباحِثينَ السَّابِقِين في لُغَةِ القُرْآنِ اسْتِعْمالًا مُناسِبًا، أَوْ صَحِيحًا. لذَلِك فَقَدْ أَصْبَحَ، ـ مَثَلًا،ـ أَكْثرَ إِيمانًا واعْتِقادًا بأَنَّ المَنْهَجَ البَيْنِيِّ الذي يَجْمَعُ، في تَناوُلِهِ للُغَةِ القُرْآنِ بَيْنَ مَدْخَلِ اللُّغَةِ ومَدْخَلِ العُلومِ الدِّينِيَّةِ كُلِّها، هُوَ الأَنْسَبُ والأَصْلَحُ لدارِسِ لُغَةِ القُرْآنِ وتَراكِيبِه؛ إِذْ لا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يُحيطَ بالعِلْمَيْنِ مَعًا. فلَا يَكْفي عَالِمَ اللُّغَةِ عِلْمُهُ اللُّغَويُّ وَحْدَه، ولا يَكْفي عالِمَ الشَّريعَةِ عِلْمُهُ الشَّرْعِيُّ وَحْدَه، وإنَّما لا بُدَّ مِنْ تَكامُلِ المَعْرِفَتَيْنِ (أَو المَدْخَلَيْنِ) لِيَكونَ الفَهْمُ صَحيحًا والنَّتيجَةُ أَصْدَقَ وأَدَقَّ. ثُمَّ رَأَى أَنّ اعْتِمادَ النُّحاةِ في اسْتِنْباطِ قَواعِدِهم عَلى الاسْتِقْراءِ النَّاقِصِ قَدِ انْعَكَسَ سَلْبًا على دِراسَتِهِم للقُرْآنِ فكانُوا يَتَعَسَّفونَ، أَحْيانًا، في فَهْمِ بَعْضِ أَلْفاظِهِ، وإعْرابِها إِعْرابًا يَخْضَعُ بقُوَّةِ الإِرْغامِ لِما سَطَّروهُ مِنْ قَواعِدَ بَنَوْها على الشَّائِعِ والأَغْلَب، ولا سِيَّما إِذا كانُوا يَدْخُلونَ إلى فَهْمِ القُرْآنِ مِنْ جانِبِ النَّحْوِ واللُّغَةِ وَحْدَه. وقَدْ نَوَّهَ كَثيرًا بمَوْقِفِ سِيبَوَيْهِ حِينَ وَجَدَ أَنَّهُ لَمْ يَحْشُرْ نَفْسَهُ أَحْيانًا، وهُوَ إِمامُ النَّحْوِ والنُّحاةِ، فيما هُوَ مِن اخْتِصاصِ الفُقَهاءِ وعُلَماءِ الشَّريعَة، واعْتَبَرَ ذَلِك دَليلًا عَلى إِمَامَتِهِ في ناحِيَةٍ أُخْرى هِي النَّاحِيَةُ المَنْهَجِيَّةُ التي جَعَلَتْهُ يَقِفُ عِنْدَ حُدُودِ تَخَصُّصِهِ، ولا يَتجَاوَزُها مُتَطفِّلًا على ما لَيْسَ لَهُ فِيه، باعْتِبارِ أَنَّ تَناوُلَ نَصِّ القُرْآنِ مِنْ كُلِّ جَوانِبِه، يَحْتاجُ -بلا شَكٍّ- إِلى تَضافُرِ الكِفاياتِ المَعْرِفِيَّة، أمّا المَعْرفةُ النَّحْوِيَّةُ وَحْدَها فهِيَ لا تَكْفي، ولا تَفِي.
ثُمَّ إنَّ عَدَمَ مُراعَاةِ السِّياقِ الدَّاخِليِّ للنَّصِّ القُرْآنيِّ كُلِّهِ مِنْ جِهة، والسِّياقِ الخَارِجيِّ المُتَمَثِّلِ فِيما يُكمِّلُهُ مِنَ «السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، والتَّفْسيرِ النَّبَويّ، ومَعْرِفَةِ المُصْطَلَحاتِ الشَّرْعِيَّة، وأَقْوالِ الصَّحابَةِ والتّابِعينَ، وأَتْباعِهِم، وأَسْباب النُّزولِ، وقِصَصِ الآيِ، وغَيْرِها..»، مِنْ جِهةٍ أُخْرى، أَظْهَرَ بدَوْرِهِ القُصورَ الذي نَراهُ في بَعْضِ اتِّجاهاتِ الدَّارِسِينَ، والمُفَسِّرينَ، والبَاحِثينَ، وخُصُوصًا عِنْدَ بَعْضِ النُّحَاةِ، في فَهْمِ أَلْفَاظِ القُرْآنِ، وجُمَلِهِ، وتَراكِيبِه. ومِنْ هُنَا أَصْبَحَ المُؤَلِّفُ مُناصِرًا بقُوَّةٍ للتَّيَّارِ الذي يَدْعُو إِلى تَفْسِيرِ القُرْآنِ بالقُرْآنِ نَفْسِهِ؛ أَيْ النَّظَرُ إِلى النَّصِّ الأَصْغَرِ (=البِنْيَةُ الصُّغْرى) باعْتِبارِهِ جُزْءًا مِنَ النَّصِّ الأَكْبَرِ (=البِنْيَةُ الكُبْرى). ورَغْمَ أَنَّ هَذا التَّيَّارِ كانَ مِنْ أَقْدَمِ ما وُجِدَ مِنْ تَيَّاراتِ التَّفْسِيرِ كَما هُوَ مَعْلُومٌ، إِلَّا أَنَّهُ ما زَالَ حَتَّى اليَوْمَ يُثْبِتُ نُجُوعَه وأَهَمّيَتَهُ، وضَرُورتَهُ، ويَدْعو، أَكْثَرَ مِمَّا مَضَى، إِلَى تَوْسِيعِ آفَاقِهِ، والتَّنْظِيرِ لَهُ بعُمْقٍ جَديدٍ، ومُصْطَلَحاتٍ حَدِيثة. وقَدْ ضَرَبَ المُؤَلِّفُ، عَلى كُلِّ فِكْرةٍ، أَوْ رَأْيٍ ناقَشَهُما وحلَّلَهما في هَذا المَوْضُوعِ، وغَيْرِه، أَمْثِلةً عَدِيدةً مِنْ أَقْوالِ النُّحَاةِ، واخْتِلافَاتِهم النَّاتِجَةِ عَنْ سُوء اسْتِعْمالِ المَدْخَلِ، أَوِ المَدَاخِلِ المُناسِبَةِ لِفَهْمِ النَّصِّ. وفي المَبْحَثِ الأَخِيرِ نَجِدُهُ يُرَكِّزُ عَلى المَنْهَجِ الذي يُمْكِنُ اتِّباعُهُ في تَأْصِيلِ المُصْطَلَحِ القُرْآنيّ، ولَمْ يَجِدْ خَيْرًا مِنْ ضَرْبِ المِثالِ بكَلِمَتَي (نَبيّ) و(ورَسول) اللَّتَيْن اعْتَبرَهُما مِنَ الأَلْفاظِ التي لَمْ يَتَحدَّدْ مَعْناها الاصْطِلاحيِّ إِلّا مَع نَصِّ القُرْآنِ الكَريم، فجَعَلَهُما، لِذَلِك، مِحْوَرَ كَلَامِهِ في هَذا الفَصْل، وأَسْهَبَ في عَرْضِ الحُجَجِ، والأَدِلَّةِ المُؤَيِّدَةِ لرَأْيِه، ولاسِيَّما أَنَّهُ لَجَأَ إِلى اسْتِعْمالِ مَنْهَجٍ اسْتِقْرائيٍّ دَاخِليٍّ تامٍّ (أَيْ مِنْ دَاخِلِ النَّصِّ القُرْآنيِّ)، فاسْتَخْرَجَ كُلَّ المُفْرَداتِ الوَارِدَةِ في هَذا النَّصِّ بهَذِهِ الصِّيغَةِ، أَوْ تِلْك، وتَتبَّعَ دَلالاتِها فِيهِ لِيَصِلَ إِلى النَّتِيجَةِ التي انْتَهى إِلَيْها.
وبِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ جُمْلةٍ قَليلَةٍ مِنَ الآراءِ التي يُمْكِنُ لي، أَوْ لأَيِّ قَارئٍ آخَرَ، أَنْ يُنَاقِشَ صاحِبَ الكِتابِ فِيها، أَو يُخالِفُهُ، ويُعارِضُه، وهَذا شَيْءٌ طَبِيعيٌّ تَمامًا، فإِنَّ المَباحِثَ الثَّلاثَةَ جاءَتْ مُتَعاوِنَةً، ومُتَكامِلَةً في عَرْضِ الأَفْكارِ الأَساسَ التي أَرادَ تَناوُلَها، وأَهَمُّها ما كانَ يَدورُ حَوْلَ التَّكامُلِ المَعْرفيِّ الضَّروريِّ في ثَقافَةِ البَاحِثِ في لُغَةِ القُرْآن، والانْطِلاقِ مِنَ السِّياقِ الدَّاخِليِّ والخارِجِيِّ للنَّصِّ القُرْآنيِّ بكَامِلِه، ودِراسَةِ أَلْفاظِ القُرْآنِ، واصْطِلاحاتِهِ في ضَوْءِ مَنْهَجٍ اسْتِقْرائِيٍّ تَامٍّ، وفي ظِلِّ عِلْمِ المُصْطَلَحِيَّةِ الذي هُوَ مِنَ العُلومِ الحَدِيثَةِ الوَاعِدة.
ولَعَلَّ مِمّا سَتَحْمَدُهُ الغالِبِيَّةُ مِنْ قَارِئِي هَذَا الكِتابِ، هُوَ الأُسْلوبُ القَوِيُّ المَتينُ، والأَلْفاظُ والتَّراكِيبُ المُنْتقَاةُ التي اسْتَعْمَلها الأُسْتاذُ نَصْرُ الدِّينِ الوَهّابي في صِياغَةِ بُحُوثِهِ الثَّلاثةِ المُتضَمَّنةِ في هَذا المُؤَلَّف. وإِلَى جَانِبِ هَذا، هُنالِك تِلْك القائِمَةُ الطَّوِيلَةُ المُتَنَوِّعَةُ مِنَ المَصادِرِ والمَراجِعِ التي تَدُلُّ عَلى حِرْصِ البَاحِثِ عَلى التَّوْثيقِ السَّليمِ للكَلامِ الذي يَسُوقُه، والجُهْدِ الكَبيرِ الذي بَذَلَهُ في الاطِّلاعِ على كُلِّ دَقيقَةٍ مِنَ الدَّقائِقِ، أَوْ فِكْرةٍ مِنَ الأَفْكارِ التي يَمُرُّ بِها، أوْ يَحْتاجُ إِلَيْها. حَتَّى إِذَا ما تمَّ عَرْضُها، أَوِ التَّطَرُّقُ لَها، جَاءَتْ مُعزَّزةً بالإِحَالاتِ المُسْتَفيضَةِ عَلى أَصْحَابِها، ومَظَانِّها، ومَراجِعِها الصَّحِيحة. وذَلِك مِنْ مُقْتَضَياتِ البَحْثِ العِلْمِيِّ السَّلِيمِ والرَّصِين.