الدين والعلم والإيمان والدولة
ينادى بعض المسلمين بفصل الدين عن الدولة والعلم عن الإيمان وهذه دعوة جاهلية، لأن فصل الأشياء يتوقف على حقائق طبيعتها وليس على مجرد القول أو الطلب، وأصل نشأة هذه الدعوى كانت بأوروبا في القرون الوسطى بدعوى فصل الدولة عن الكنيسة ونشأة ما يسمى بالدولة اللادينية أو العلمانية، والتي تفرع عنها الدول الشيوعية فهي – ابتداء – ليست قضية المسلمين كما أن دولة بلا دين فلمن تدين ؟ ودين بلا دولة فأين يطبق هذا الدين ؟
العلم إجمالاً هو معرفة حقائق وعلاقات عناصر الكون، وهذه المعرفة تشير إلى أنها مجرد عناصر وأن لها خالقاً قيوماً على أمرها وأن مصيرها إلى الزوال كسُنة أي ظاهرة كونية، والأشياء فعل الله وتدل على صفات جماله وجلاله، والعلم بالأشياء علم بأفعاله، فكيف نفصل العلم بأفعاله عن الإيمان به ومعرفة مطلوباته، وهو الغاية من خلق الأشياء، فجميع الظواهر الطبيعية على الأرض ترتبط بحركة الكون والإنسان، وهي سلسلة من الأسباب والنتائج تنتهى إلى رب الأسباب الذي إذا شاء جعل الهواء الذى نتنفسه إعصاراً، والأرض التي نستقر عليها زلزالاً، والماء الذي نشربه ملحاً أجاجاً أو غوراً أو فيضاناً وليلاً بغير نهار والعكس، وهنا يظهر عجز الإنسان وضعفه وإفتقاره لخالقه وللإنسان ثلاث حركات، فكر يدخله حق وباطل، وقول يدخله صدق وكذب وفعل يدخله خير وشر، والعلم المادي ناتج هذه الحركات، فإذاً يدخله باطل وكذب وشر، وفساد البيئة وأسلحة الدمار الشامل خير مثال، وجل هذا العمل ظن وليس حقائق، وغايته معرفة خصائص الأشياء وإعادة تركيبها، ولكنه لا يستطيع خلق حبة قمح أو حتى ذبابة وحياة الإنسان وحركته تثير تساؤلات لا يستطيع الإجابة عليها بجهده وذهنه وعمره المحدودين، مثل الروح والموت وما بعده والحضارات المادية التي فنيت وكيف كانت تدين لحجر أو بشر أو كوكب أو نار أو غير ذلك، وتأتي من الأخلاق مالا يأتيه الحيوان. فلو كانت حياة الإنسان حضارات مادية تقوم وتندثر فقط، لكان الأمر عبثاً ولن تأتي حضارة أقوى من سابقتها.
قال تعالى: ) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وأَنَّكُمْ إلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ(
(المؤمنون: 115)
ماذا عن المخلوقات التي نلمس أثرها وتحمل لنا خيراً وشراً، ولا نراها ويحاول الإنسان التعرف عليها بالسحر والأوهام وضرب الرمل والودع.
إن الله – تبارك وتعالى – لم يخلق الكون كي يقضي الإنسان عمره في فك رموزه وأسراره، ولكن ليستدل عليه فيتبع شريعته ومنهاجه، فكما أحكم الحق – تبارك وتعالى – نظام الكون على أكمل صورة فإنه جعل للإنسان شريعة ومنهجاً محكمين لصلاح نظام حياته ودون ذلك فهو عبث وإفساد.
قال تعالى: )قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً. الَذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (
(الكهف: 1-3-104)
وعلى ذلك كانت رسالة الإسلام كغيرها من الرسالات لتعريف الإنسان بما يعجز عنه مثل الخالق وأفعاله وصفاته، والكون وأبعاده والشريعة والمنهج لصلاح الإنسان روحاً وجسداً، وفرداً وجماعة في كل أطوار حياته، والجزاء والحساب والجن والملائكة، ثم إيكال ما يعجز عن فهمه أو تخفى عليه أسبابه إلى القضاء والقدر، حتى لا يتهم الأنسان نفسه فنحن نشبع جانباً دون آخر، وحياة ذاهبة دون حياة باقية، وبذلك يظل الجوع والعوز مستمرين، ولكن رغم ذلك فإن اعتصام الإنسان بالمادة دون تبصر إيماني يولد الشهوات التي تؤدي إلى الغفلة فتوقع في الهفوات فيمتنع الفهم ويحدث النفاق والشرك والكفر ثم التقليد في كل ذلك، ثم العدوان على حياة وأعراض وأموال الآخرين، والصد لأي نبي أو رسول أو مصلح يذكر بالغاية والمنهج (إذا فسدت معاملات الناس تمكن الوسوا س )أبن عربي
إن الغرض من النداء بفصل الدين عن الدولة والعلم عن الإيمان هو صياغة مجموعة من القيم المادية الوضعية تكون بمثابة دين للبشر يسوق عبر وسائل الإعلام المختلفة والمؤتمرات الدولية والترغيب والترهيب المادي والمعنوي تحت مسميات باهتة وغامضة هي زخرف القول غروراً وهي كذلك لخبث وقصور واضعيها وجوهرها عدم الخضوع لله والخضوع لهذه القيم، وبالتالي مصلحة واضعيها، فالأمر إذن إلغاء دين، ربه الله، والتعبد بدين من صنع البشر إلهه المادة.
إن من أسباب تخلف الأمة وجود فكر وعادات دخيلة أو مورثة تخالف الإسلام نتيجة البعد عن الكتاب والسنة، فجفت ينابيع العلم واليقين، فكان الجمود والتخلف والاعتماد على فهم الآخرين وعدم التمييز بين الصالح والفاسد، وإهمال اللغة التي هي الوسيلة لفهم الكتاب والسنة.
كل حضارة وحدة متكاملة أساسها الاعتقاد الصحيح وإنما يقاس رقيها برقى إنسانها في المبادئ والقيم الصالحة، والدول لا تبنى بالقوانين ولكن تبنى بالفرد المؤمن الذي غرست فيه القيم بالتربية من الصغر.
قال تعالى: )إنَّ الَذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ( (الأحقاف: 13)
) رَبُّنَا اللَّهُ ( اعتقاد ) ثُمَّ اسْتَقَامُوا ( عملوا على شريعة ومنهج الله )فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ( في الدنيا والبرزخ والآخرة.
وغاية الشريعة لا إله إلا الله، وأشرف المنهاج منهج محمد رسول الله – صلى الله عليه وسلم .