الذكاء الوجداني للعاديين وغير العاديين وتطبيقاته التربوية
للعلم الحديث أهمية كبرى في حياتنا، لأنه لم يترك ناحية من نواحي الحياة في العصر الحديث دون أن يهتم بها ويضع لمساته السحرية عليها فيجعل ما هو مجهول معلوم ولعل من أهم لمساته في العصور الحديثة العناية الفائقة بمختلف فروعه.
ولكي يستطيع الفرد أن يحقق أكبر قدر من التوافق والتكيف مع نفسه ومع الآخرين ويصل للصحة النفسية، لابد وأن يتمتع بالذكاء الوجداني الذي حظى باهتمام كثير من الباحثين في المجالات التربوية والنفسية، وقد يرجع ذلك الاهتمام إلى ما يحققه هذا النوع من الذكاء من فرص نجاح الفرد في الحياة.
فكلما زاد فهم الفرد لمشاعره واستطاع أن يتحكم في انفعالاته وشعر بالتعاطف نحو الآخرين كلما استطاع أن يواجه مشكلاته ويحقق النجاح في حياته.
ومن ثم احتل هذا الذكاء مكانة هامة في مجال التربية وعلم النفس نظرًا لأهميته للنجاح في الحياة بدرجة لا تقل عن الذكاء المعرفي بل قد تفوقه، فقد يفشل بعض الأفراد في حياتهم العملية بالرغم من امتلاكهم ذكاء معرفيًا مرتفعًا في حين يتفوق عليهم أفراد آخرون أقل منهم في الجانب المعرفي ولكنهم يمتلكون بعض مهارات النجاح ومنها: مهارات الذكاء الوجداني التي تؤهلهم لتحقيق النجاح والسعادة في كافة مجالات الحياة، ولقد حثت أهمية هذا النوع من الذكاء العديد من الباحثين بدراسته والتعرف على أساليب قياسه وطرق تنميته لدى الأفراد في مراحل عمرهم المختلفة. ولذلك أكد كلٌ من "جولمان، ماير وسالوفي، بار-أون " على ضرورة ربط الوجدان بالعقل من أجل بناء مجتمع سليم يتمتع أفراده بنمو عقلي متميز ونمو وجداني مرتفع.
ومن ثم يستطيع الفرد أن يتعرف على انفعالاته ويشعر بالآخرين ويتعاطف معهم ويستطيع تأجيل إشباع حاجاته في الوقت المناسب.
ومما لاشك فيه أن للعلاقات الاجتماعية السليمة أثرًا طيبًا في حياة الأفراد، فالإنسان اجتماعي بطبعه إذ لا يمكن للإنسان أن يعيش بمفرده حيث لا يستطيع الإنسان سد جميع حاجاته، وكلما كانت علاقة الفرد بالآخرين وطيدة أدى ذلك إلى تكيفه وشعوره بالأمن والانتماء. وتعد العلاقات الاجتماعية السليمة فنًا من الفنون وقدرة من القدرات الإنسانية التي تختلف من فرد لآخر لوجود الفروق الفردية بين الأفراد، غير أنه من الممكن تنمية هذه القدرة. كما تعاني بعض الأسر من افتقار أطفالها إلى الحس المرهف الذي يجعلهم لا يراعون مشاعر الآخرين، فلا يختارون كلماتهم بعناية، وقد يجرحون زملاءهم دون قصد، ويتعاملون معهم بخشونة وأنانية وعدوانية دون أية مراعاة لشعورهم.
ولذلك يرى (جولمان) أن هناك ضرورة أخلاقية تدعونا لتنمية الذكاء الوجداني لدى الأطفال لأننا نمر اليوم بأوقات تبدو فيها بنية المجتمع وقد أخذت في التفكك بصورة متسارعة كما تفسد الأنانية والعنف حياتنا المجتمعية ومن هنا جاءت أهمية " الذكاء العاطفي"، وفي كتاب (أرسطو) "الأخلاق إلى نيقوماخوس " الذي تناول فيه الفضيلة، والشخصية، والحياة الطيبة، تمثل التحدي الرئيسي في دعوتنا على إدارة حياتنا العاطفية بذكاء، فعواطفنا، إذا مورست بطريقة جيدة، ستحوز الحكمة، وعواطفنا هي التي تقود تفكيرنا وقيمنا وبقاءنا غير أنها يمكن أن تخفق بسهولة، إن المشكلة في رأي "أرسطو" ليست في العاطفة ذاتها، ولكن في سلامة هذه العاطفة وكيفية التعبير عنها.
كما أن الصحة النفسية للفرد وقدرته على التوافق الشخصي الاجتماعي تظهر في قدرته على الاستمتاع بالحياة من خلال علاقاته بأفراد أسرته وأصدقائه، والتي يكتسب منها احترامه لذاته فيستمر في جذب الآخرين نحوه للحصول على حبهم وتقديرهم، ويستلزم ذلك أن يكون لدى الفرد القدرة على التوافق والتكيف مع نفسه ومع الآخرين ولكي يستطيع الفرد تحقيق هذا التكيف لابد من أن يتمتع هذا الفرد بمهارات الذكاء الوجداني الذي يعتبر هذا الذكاء هو حجر الأساس الذي تُبنى عليه جميع أنواع الذكاءات الأخرى، وهو الأكثر إسهامًا في النجاح في الحياة لأن فهم الفرد لنفسه وتقديره لذاته وفهمه لمشاعر الآخرين مدخل أساسي للصحة النفسية.
وترجع أهمية موضوع الذكاء الوجداني والاهتمام بمشاعر الفرد والآخرين إلى الدور الهام الذي يؤديه في صحة الفرد النفسية. كما أن تأكيد وجهة نظر "جولمان" على أن أية نظرة للطبيعة تتجاهل قوة تأثير العواطف والانفعالات هي نظرة ضيقة الأفق بشكل مؤسف، حيث إن حدة المخاطر النفسية تتزايد نتيجة لضعف الذكاء الوجداني بداية من مرض الاكتئاب أو الحياة المليئة بالعنف والقلق حتى إدمان المخدرات، كما أشار إلى أنه إذا كان معامل الذكاء يسهم في 20% فقط من العوامل التي تحدد النجاح في الحياة تاركًا 80% للعوامل الأخرى والتي تتمثل في قدرات الذكاء الوجداني.
ونظرًا لأهمية موضوع الذكاء الوجداني للطفل لمساعدته على تحقيق التوافق النفسي حيث تظهر بدايات هذا النوع من الذكاء عند الطفل منذ الصغر، فالطفل الذي يستطيع أن يعي ذاته ويوجه انفعالاته تجاه موضوع معين يستطيع أن يدرك العلاقة السببية بين سلوكه وبين الأحداث من حوله ومن ثم يتمتع بالرضا عن نفسه ويستطيع أن يتكيف مع الآخرين، جاءت أهمية الكتاب الحالي في أنه يتناول موضوع الذكاء الوجداني والذي يعتبر من الموضوعات الهامة في علم النفس الإيجابي والذي يحتاج إلى توجيه مزيد من الاهتمام إليه والعمل على تنميته وخصوصًا في المراحل المبكرة من العمر. والذي حاولنا من خلاله الإسهام في تقديم إطار نظري لمفهوم الذكاء الوجداني وأهميته من الناحية التربوية.