العرب قومي بأسهم بينهم شديد (الجزء الأول)
صادقًا أقول إنّني ما قاسيت – من قبل – نصبًا في استقرارٍ بعد تجوال على عنوان تقرُّ به عينُ الفكر لموضوعٍ طرحْتُ في سفرٍ علميّ أو أدبيّ، أو في بحثٍ طرقْتُ ونشرْتُ كما قاسيت في استقرار الرأي على عنوان هذا المدوَّن. فما أن اكتمل في الخاطر موضوعه حتى بزغ عنوانه "العرب قومي بأسهم بينهم شديد" في السريرة دالًا على محتواه. وقبل أن تهنأ النفس باللقيَّة فجأها صوت من مخزون ما جمعت الذاكرة من معلومات يقول لها: "أخطأت فيما اخترت في ثلاثة. أولها أنك وصفت العرب بأنَّهم قومك، والقوم هم الرجال دون النساء بدلالة قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرًا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرًا منهن) [الحجرات: 11]. وثانيها أن قوله تعالى: "بأسهم بينهم شديد" نزل في يهود الجزيرة العربية زمان البعثة. وثالثها أنك غفلت عن حقائق التاريخ وهي دالة على أنه ليس في أيامنا هذه شعوب يمكن القول إنها شعوب عربية.
وكان مثيرًا للعجب أن أرى النفس هادئة مطمئنة تردُّ على ما نسب إليها من الأخطاء قائلة: ليس في انتسابي إلى العرب خطأ، فلقد قال تعالى: وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلَّا من آمن" وكان ممَّن لم يؤمنوا له من قومه نساء، بدلالة قوله تعالى: "فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون. ثم أغرقنا بعد الباقين". والثابت في العلم وفي الكتب السماوية أن طوفان نوح عليه السلام قد قضى على كلِّ من لم يؤمن له من الرجال والنساء. وهؤلاء هم "الباقين" في قوله تعالى: "ثم أغرقنا بعد الباقين" وهم من قومه. ثم إن قوله تعالى "بأسهم بينهم شديد" إنْ يكن قد نزل في يهود الجزيرة العربية زمان البعثة، فإنه لا يعني أن هؤلاء وحدهم هم الذين بأسهم بينهم شديد. فالقول – كما نقول – جامع غير مانع. بمعنى أنَّه مقصور حكمه أو ما يقول به تقريرًا لواقع على يهود الجزيرة العربية زمان البعثة وحدهم دون غيرهم؛ فأنا – بعد – لم أخطئ. أمَّا نعتي قومي بالعرب، ففيه أيضًا لم أخطئ. دليلي على هذا إنَّنا نسمي سكان الجزر البريطانية يومنا هذا "الإنجليز" أو إننا نصفهم بأنهم إنجليز. يكون منَّا هذا ونحن نعلم أن سكان هذه الجزر الأصليين كانوا "البريتون" Britons وأنهم اختلطوا بالغزاة الأنجلو سكسون والدانش Danes والنورماند. نسمِّيهم الإنجليز ونحن نعلم أنَّ الدم الجرماني أو التيوتوني Germanic – Teutonic هو الدم الأنجلوسكسوني الغالب في الشعب الإنجليزي. كذلك فإنَّا نسمِّي سكَّان قارة أوروبا الوطنيين بالأوربيين أو نصفهم بأنَّهم أوربيون. نفعل هذا ونحن نعلم أنَّ جميع أقاليم قارة أوروبا قد تعرضت لغزو القبائل التي كان يطلق عليها في الإمبراطورية الرومانية اسم "البرابرة" وأنَّ دماء هؤلاء البرابرة قد امتزجت بدماء سكان أقاليم القارة وبقاعها الأصليين. فهذه ألمانيا كان ساكنو جنوبها وغربها الأوَّلون من الشعوب "الكلتيةً، دفعتهم القبائل الجرمانية البدائية جهة الغرب وحلَّت محلَّهم وبلغت الراين نحو سنة 2000 قبل الميلاد، وفي خلال قرن واحد لم يعد إقليم "بافاريا" كلتيّ السكان. وهذه أقاليم شرق أوروبا، اجتاحتها القبائل الجرمانية التي عبرت البلطيق من شبه الجزيرة الاسكندنافية فيما بين القرن السادس والقرن الثالث قبل الميلاد، لتستقر على شاطئه بين "الأودر" و"الفستولا"، ثم كان منها الاتجاه جنوبًا عبر أوروبا صاعدة الفستولا إلى جبال "الكربات" أو مخترقة بولندا ومستنقعات "البريبت" إلى السهول الممتدة شمال البحر الأسود. وغير خاف أنَّ سائر أقاليم أوروبا قد تعرَّضت لغزو القبائل المسماة "برابرة" الذين كان منهم "الفرانسيسك" Francisca والبرجنديون والهون والقوط الذين عبروا البلطيق قبل القرن الرابع قبل الميلاد من اسكندنافيا إلى مصبِّ الفستولا. وقد وصلت بعض قبائلهم في نحو سنة 150 للميلاد إلى حوض "الدنيبر" الأدنى والساحل الشمالي للبحر الأسود، لتنتشر بعد هذا في أنحاء جنوب روسيا. وهذه فرنسا استقرَّت فيها – مع سكانها الأصليين – ثلاثة شعوب من هذه التي كانت تسمى "بربرية" هي: الفرنجة الساليون، والبرجنديون، والقوط الغربيون. وهذه أسبانيا استقرَّ فيها شعبان آخران هما: الوندال، والسويف. وقدوصل الوندال إلى شمال أفريقيا. وعند حلول القرن الأول الميلادي كانوا قد نزلوا "سيلزيا" و"بوهيميا".
ويبدو أنَّ حديث النفس الهادئة المطمئنة وما دلَّلت به على صحَّة وصف شعب – موزَّع في وحدات سياسية متعدِّدة تسمى دولًا – بأنه عربي، ووجود أُمَّة يطلق عليها "العرب" قد أقنع الصوت الذي صاح في النفس من مخزون الذاكرة قائلًا لها "أنت أخطأت"، ففي الذاكرة أنَّه لم يبلغ اختلاط الدم الأجنبي بالدم العربي مبلغ اختلاط دماء الغزاة بالدم البريتوني في الجزر البريطانية التي ندعو أهلها اليوم "الإنجليز"، كما أنه لم يبلغ مبلغ امتزاج دماء القبائل البربرية بدماء سكان أوروبا القديمة الذين ندعو أحفادهم اليوم "الأوربيون"؛ فكانت منه الموافقة على اتِّخاذ "العرب قومي.. بأسهم بينهم شديد" عنوانًا لموضوع هذا الكتاب.
وفي عرض موضوع هذا الكتاب رأيت أن أبدا "بباب تمهيد" أتناول فيه بيان معنى كلمة "عرب" والتعريف "بالعرب"، وهو ما أوجب بيان قبائل العرب الأوَّلين، البائدة منها والعاربة والمستعربة، وبيان الملحقين بهم، وهؤلاء الذين يُسمَّوْن – في وقتنا الحالي – عربًا. ورأيت أن يكون عرض الأحداث المتعلِّقة بإثبات ما هو محقَّق ثبوته وفق تسلسل زمني يتَّفق وتقسيم مراحل تاريخ العرب المرتبط بتاريخ الإسلام، نائيًا عن تقسيمٍ للمؤرِّخين مشهور، يقسم فيه تاريخ الإنسانية خمسة عصور، أوّلها هو العصر القديم، يبدأ بخلق الإنسان وينتهي قبيل نهاية القرن الرابع للميلاد، وثانيها هو العصر الوسيط، يبدأ بانتهاء العصر القديم ويستمر لنحو عشرة قرون إلى زمان ظهور عصر الثقافة والحضارة العلمية، المسمَّى عصر النهضة الذي هو ثالث هذه العصور، ورابعها هو ما يعرف بالعصر الحديث، يبدأ من نهايات القرن الثامن عشر إلى بداية التاريخ المعاصر، خامس العصور لديهم. وقد اتَّبعت تقسيمًا آخر جعلت فيه مراحل تاريخ العرب ثلاثا. أولاها مرحلة العصر القديم وهي مرحلة تشمل ما يعرف بالعصر الجاهلي، أو عصر ما قبل الإسلام، وتستمر شاملة الفترة الواقعة ما بين ظهور الإسلام وبين نهاية خلافة الدولة العباسيَّة. وثانيتها هي مرحلة ما أسميته "العصر الأندلسي" حدّاها هما: فتح الأندلس، وطرد العرب منها، وهي بمثابة العصور الوسطى في تاريخ العرب. وثالثتها هي مرحلة العصر الحديث، تمتد إلى التاريخ المعاصر. وقد رصَّعت كلَّ مرحلة من هذه المراحل ببعض أفعال العرب بالعرب، أحسب أنهم يرونها الدُرَّ يزينُ تاريخهم، فكلُّ ما يراه الطبع حسنًا فهو حسن. على أن يكون مآل الطواف في مراحل التاريخ في هذا الكتاب خاتمة تفتح للتفاؤل أبوابًا أمام ذوي العزم الذين هم لعروبتهم يخلصون.