أدب الرحلات المعاصر بمنظور ذرائعي
لستُ أكاديميًّا، ولا متخصّصًا في الأدبِ، ولكنْ أعتبرُ نفسي قارئًا جيّدًا للأدبِ عمومًا، ولأدبِ الرحلاتِ بصفةٍ خاصةٍ، وقدْ شرفتُ برئاسةِ شعبةِ أدبِ الرحلاتِ باتحادِ كتابِ مصرَ، وكنا نعقدُ ندوة شهريةً لمناقشةِ كتابِ منْ كتبِ أدبِ الرحلاتِ في وجود مؤلفه، وقدْ أتاحَ لي هذا فرصةَ القراءةِ المتعمّقةِ لما كتبهُ الرحّالةُ المصريونَ والعربُ في الوقتِ الحاضرِ، وهوَ ما أشارتْ إليهِ كاتبتنا الدكتورةِ عبيرْ خالدْ يحيي في كتابها بأدبِ السفرِ، حيثُ تطوّرتْ الرحلاتُ ولمْ تعدْ غايتها الكشفَ عنْ مجاهلَ وبلادٍ جديدةٍ، إلى أنْ صارَ الرحالةُ مسافرًا بغايةٍ تجاريةٍ أوْ سياسيةٍ أوْ طبيةٍ أوْ سياحيةٍ أوْ شخصيةٍ.
وكانَ مؤتمرُ الشعبةِ الذي يُعقدُ في نهايةِ كلِ دورةٍ، بمثابةِ عرضٍ أكاديميٍ لكلِّ الجديدِ في تأصيلِ وتأطيرِ فكرِ أدبِ الرحلاتِ، بواسطةِ أساتذةٍ متخصّصينَ في الجغرافيةِ والأدبِ وعروضٍ لبعضِ الكتبِ. وقدْ تمكنّا منْ قراءةِ أشهرِ الرحلاتِ العربيةِ، معَ التركيزِ على مناطقِ الجذبِ في تلكَ الموضوعاتِ باعتبارها محطّ اهتمامِ الرحالةِ أوْ الكاتبِ والقارئِ معًا، مؤكدًا بذلكَ قيمةَ أدبِ الرحلاتِ في فتحِ آفاقٍ جديدةٍ منْ المعرفةِ والتواصلِ بينَ الشعوبِ وتدعيمِ بعضِ القيمِ الإنسانيةِ منْ ناحيةِ الصبرِ والتعاونِ والتعارفِ، والقدرةُ على رصدِ مركزِ الجاذبيةِ فيما يراهُ الرحّالةُ ويكتبهُ، وغيرها منْ القيمِ التي تسهمُ الرحلاتُ في إشاعتها.
وعلى ذلكَ لمْ تعدْ الرحلةُ كما تعلّمنا، عبارةٌ عنْ تجهيزٍ وإعدادٍ وسفرٍ وتجوالٍ ورصدٍ وتسجيلٍ في المكانِ والزمانِ، بلْ هيَ تعبيرٌ عميقٌ عنْ رغبةٍ دفينةٍ في التغييرِ الداخليِ والانطلاقِ لآفاقٍ أرحبَ وأوسعَ، وتلبيةٌ لحاجةٍ ضروريةٍ هيَ الحاجةُ إلى خوضِ تجاربَ جديدةٍ، أوْ الرغبةِ في الاستكشافِ، بالتعرّفِ إلى ثقافاتٍ وقيمٍ تختلفُ عنْ ثقافةِ الرحّالةِ والكاتبِ. أكثرَ منْ تعبيرها في الواقعِ عنْ تغييرِ مكانٍ، فالرحلةُ وإنْ كانتْ رحلةٌ في المكانِ، إلّا أنَ المقصودَ بالمكانِ، في معظمِ الرحلاتِ، هوَ مكانُ المجتمعِ الآخرِ أوْ الثقافةِ الأخرى، وكما يراها الكاتبِ والناقدِ المغربيِ الدكتورِ خالدْ التوزاني، تعتبرُ الرحلةُ انتقالًا منْ حضيضِ الرغباتِ والأهواءِ، إلى مدارجَ علويةٍ منْ الجهادِ الروحيِ والفكريِ والحضاريِ.
استمتعنا من خلال الكتاب بتحليل الكاتبة لروايةِ «النوتي» للكاتبِ العراقيِ حسنِ البحارِ، وقدْ ناقشنا الروايةَ في حضورِ الكاتبةِ في واحدةٍ منْ ندواتِ شعبةِ أدبِ الرحلاتِ، ولا شك أنَ العملَ كانَ مميّزًا منْ حيثُ إنهُ منْ نوعٍ معاصرٍ من أدبِ الرحلاتِ.
خلصتْ الكاتبةُ إلى أنَّ الكاتبَ استطاعَ: عبرَ هذهِ الرحلةِ التي أخذنا بها فوقَ عالمهِ الأزرقِ، أنْ يطوفَ بنا وسطَ تقلباتهِ المباغتةِ، وتحولاته المصيريةِ بينَ خطرِ الموتِ وفرحَ النجاةِ.
خلالَ التجوالِ في كتابِ «أدبِ الرحلاتِ بمنظورٍ ذرائعيٍ» قامتْ الكاتبةُ بتطبيقِ منهجها على (روايةٍ) للكاتبِ المصريِ /خليلْ الجيزاوي/ بعنوانِ (أيامُ بغداد)َ. وتعاملتْ معَ الكتابِ، ليسَ ككتابٍ في أدبِ الرحلاتِ، ولكنها طبقتْ عليهِ معاييرَ نقديةٍ أدبيةٍ عاديةٍ يمكنُ تطبيقها على أيِ (روايةٍ)، فتقولُ:
- كانَ باللهجةِ العاميةِ المصريةِ والعراقيةِ، وهذا مأخذٌ نقديٌ عليهِ، وقدْ أجمعتْ جلَّ آراءِ النقادِ والدارسينَ على ضرورةِ استعمالِ اللغةِ العربيةِ الفصحى في الحوارِ.
كما نلاحظُ أنها اهتمتْ بالجانبِ الأخلاقيِ لدى الكاتبِ، معَ أنَ المفترضَ أنَها تناقشه ككتاب في أدبِ الرحلات وتقول:
- ليسَ لديهِ وازعٌ أخلاقيٌ لتبريرِ ما يكتبهُ، فهوَ ينقلُ صورةً كتابيةً للواقعِ، ويمكنَ أنْ يعلقَ عليها، ولكنَ لا يمكنُ إخضاعَ ما يكتبهُ لجانبٍ أخلاقي، إلا عند تناول العمل بإطار روائي كما فعلتْ دكتورة عبير، تناولت العمل كـ (أدب سفر) في إطار سردي روائي.
حيث قالت تحت بند الخلفية الأخلاقية:
- كانَ الكاتبُ شديدُ الحرصِ على إظهارِ الجانبِ الأخلاقيِ في عملهِ، وعلى كلِ المستوياتِ، الاجتماعيةِ والعقائديةِ والتعامليةِ وحتى السياسيةِ والاقتصاديةِ، وفي كلِ المواقفِ، وقدمَ أنموذجًا مشرّفًا عنْ الشبابِ المصريِ، خلافًا للمئاتِ منْ الرواياتِ التي يقدمُ كتّابها الجانبُ المسفُّ والمسيءُ للسمعةِ، معَ أنَ الكاتبَ لمْ ينتقلْ منْ مصرَ إلى بغدادَ لتجميلِ صورةٍ المصريينَ.
لاحظتُ أنها اتكأتْ على كتابٍ للكاتبةِ وفاءُ إبراهيمْ عرارْ المعنونِ بـ «الملتقى». في محاولةٍ لتحليلِ النصِ وتطبيقِ المناهجِ الأكاديميةِ التي أشارتْ إليها في الكتابِ. وخلصتْ إلى أنَّ الكتابَ:
- «مسلوبُ الجنسِ، ينتمي إلى جنسٍ يوازي الجنسُ الأدبيُ وأحيانًا يلتقي معهُ، ليسَ جنسًا منْ الأجناسِ السرديةِ، وليسَ نصًّا شبيه بالنصِ، وليسَ نصًّا، فهوَ مشاهداتٌ عينيةٌ تختصُ بالجمالياتِ اللغويةِ علينا نقدهُ بشكلٍ علميٍ، وهوَ ينتمي إلى مشاهداتٍ ديموغرافيةٍ مقارنةً لرحلةٍ بينَ بلدينِ مختلفينِ جغرافيًّا واجتماعيًّا وعمرانيًّا وجماليًّا.
ومنْ ناحيتنا نرى أنَّ كلَ نصٍ، ينتقلُ صاحبهُ منْ مكانٍ إلى مكانٍ، في زمانٍ محددٍ. انتقالًا فعليًّا، فهوَ يعتبرُ أدبَ رحلاتٍ، ولا يمكنُ تصنيفهُ بغيرٍ، حتى وإنْ كانَ أسلوبهُ الأدبيُ تقريريًّا، أوْ أيِ نوعٍ منْ أنواعِ السردِ.
ويعتبرَ الكتابُ، وبحقٍ، إضافةٌ راقيةٌ إلى مناهجِ البحثِ التْي تناولتْ أدبَ الرحلاتِ بالنقدِ المنهجيِ، معَ عدمِ إغفالِ خصوصيةِ أدبِ الرحلاتِ كأدبٍ لهُ طبيعةٌ خاصةٌ.