قراءات وثائقية آثارية ( بحوث لعمائر وأملاك مندثرة فى ضوء وثائق مختارة)

يعد الوقف خاصية متلازمة للحضارة الإسلامىة عبر تاريخها الطويل. فهو بمثابة الطاقة التى دفعت بمسيرتها نحو النماء والتطور. فهو وسيلة من وسائل التقرب إلى الله سبحانه وتعالى يسعى من خلاله الأفراد إلى الحصول على الأجر والثواب، لهذا كان ناتج الوقف مثمرًا عبر تاريخنا وحضارتنا إذ تسابقت إلى تطبيقه فئات المجتمع كافة دون تحديد فشارك فيه الحاكم والأمير والوزير والعالم والثرى والإنسان العادى فكانت الحصيلة هذه الثروة الحضارية المشعة بالخير.

والوقف نوع من الإيثار إذ أنه يتطلب عاده تخلى المرء عما يملكه أو جزء منه فى سبيل الآخرين من أجل منفعة المجتمع الذى ينتمى إليه. ولما كان الإسلام يعد الإيثار فضيلة من الفضائل التى تقرب الإنسان إلى ربه U فقد أصبح فضيلة من الفضائل التى اختص بها عن غيره من الديانات السابقة.

ويعد عمر بن الخطاب t من أسبق المسلمين استخدامًا لهذه الفضيلة فقد ورد فى صحيح مسلم "حدثنا يحيى بن يحيى التميمى أخبرنا سليم بن أخضر عن ابن عون عن نافع عن ابن عمر قال أصاب عمر أرضًا بخيبر فأتى النبى ^ يستأمره فيها فقال يا رسول الله إنى أصبت أرضًا بخيبر لم أصب مالاً قط هو أنفس عندى منه فما تأمرنى به؟ قال "إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها" قال فتصدق بها عمر، أنه لا يباع أصلها ولا يبتاع ولا يورث ولا يوهب قال فتصدق عمر فى الفقراء وفى القربى وفى الرقاب وفى سبيل الله وابن السبيل والضيف 

لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقًا غير متمول فيه، قال فتحدث بهذا الحديث محمد فلما بلغت هذا المكان غير متمول فيه قال محمد غير متأثل مالاً".

ويوضح هذا الحدث كيف أن عمر t حبس أنفس وأجود ما يملك بعد أن أرشده المصطفى ^ إلى ذلك دلالة لعظم أمر الوقف من الوجهة الشرعىة.

وحقيقة الأمر أن حجه الوقف تفصح عن تفاعل البواعث المعنوية مع المؤثرات المادية فى إنشاء الوقف فى لحظة معينة ليؤدى غرضًا أو عدة أغراض ضمن السياق الاجتماعى العام مادام هذا الوقف قائمًا على أصوله. فحجة الوقف بهذا المعنى وبلغه التحليل الاجتماعى القانونى لها أهمية فى تحليل العلاقة بين الأوقاف والسياسة ودورها أى الأوقاف فى مجال علاقة المجتمع بالدولة. 

فالحجه إذن ليست وثيقة رسمية أو سند مكتوب بصياغة الواقف يتضمن معلومات عن الواقف والموقوف والموقوف عليه وغير ذلك من المعلومات، وإنما هى مرآة توضح جانبًا من جوانب علاقة الوقف بمحيطه الاجتماعى العام، بما فى ذلك النظام السياسى وتوجهات السلطة الحاكمة لهذا عنيت جميع التشريعات فى مختلف البلاد فى كل العصور بالتوثيق لماله من أهمية كبيرة فى تنظيم سير المعاملات وأقامتها على أساس وطيد لإظهار نية المتعاقدين واضحة جلية فى معاملاتهم مع المحافظة على المحررات التى تثبتها وصيانتها على مر الأيام. ومن هنا اكتسبت المحررات الموثقة قوة تنفيذية من حيث تقريرها للحقوق واعتبارها حجة يعتد بها عند الاحتياج إليها. لهذا اختصت المحاكم منذ ظهورها بأعمال إثبات التصرفات والعقود والتصديق عليها بما لها من ولاية القضاء فى مثل هذه الأمور متبعة فى ذلك مجموعة من الإجراءات القانونية اللازمة حتى يصير للمحررات قوة تنفيذية.

لا يقتصر أهمية الوقف والحجة والتوثيق على إيضاح الجانب الاجتماعى والاقتصادى فى مجتمع ما والذى يرتبط ارتباط وثيق بالجانب السياسى والسلطة الحاكمة، بل تعتبر الوثائق من أهم المصادر التى يمكن فى ضوئها دراسة تأريخ العمائر دراسة متكاملة بل يمكن لها أن تصحح الكثير من الأخطاء التى تقع فيها الدراسات الأثرية التى لم تعتمد على الوثيقة كمصدر للتأريخ بل والوصف أيضًا، فهى مصدر لمعرفة منشأ العمارة وتأريخها بالإضافة إلى العناصر والوحدات المعمارية المكونة لها وأيضًا أنشطة العمارة ووظيفتها. 

كما تمدنا الوثائق بصورة شاملة عن الوضع العمرانى فى المدن حيث تتضمن سجلاتها الإشارة إلى الكثير من المعالم المدنية الخاصة بالإنتاج والصناعة وذلك فى قضايا البيع والشراء والإيجار وغيرها من القضايا التى تحدد لنا الكثير من المواقع والآثار بعضها قد يكون قائمًا والآخر مندثرًا، وكذلك المحلات والشوارع والأزقة والحارات وخاصة فى قضايا البيع والشراء للدور والحوانيت والتى تعين دائمًا موضع العقار بحدوده الأربع، بالإضافة إلى الصفة الرسمية فى تعيين حالات المدينة وذلك بذكر خاناتها لتحديد الضرائب المقررة وبذلك نستدل بطريقة غير مباشرة على عدد حارات المدن وخاناتها مع ذكر أسمائها وبواباتها، فنستطيع بذلك أن نقدم صورة شاملة عن الوضع العمرانى فى فترة زمنية محددة، كما نستطيع رسم الملامح العمرانية للمدن فى فترات سابقة لحركة التطور العمرانى التى يشهدها بعضها.

فى ضوء هذا أقدم هذا الكتاب الذى يتضمن مجموعة من البحوث الوثائقية المنوعة والتى تحدد أدوار شتى للوثيقة بعضها يتعلق بمصاريف الأجرة المطلوبة للخدمة بآبار وسواقى وصهاريج السلطنة الشريفة والمؤرخ سنة ثلاثين ومائتين وألف هجرية، والوثيقة تمثل أحد الوثائق التى تتعلق بالسلطة الحاكمة دلالة للاهتمام بصيانة وخدمة المنشآت المائية اللازمة لسد حاجة الأفراد والمؤسسات المدنية بالماء اللازم للشرب والاحتياجات اليومية، والوثيقة على جانب كبير من الأهمية فهى ترصد الطوائف الحرفية اللازمة للخدمة بهذه المنشآت المائية مثل الفخاخريين والسقائين والبيارين والحباليين والنجاريين والنشارين والأجر المطلوبة لها، وتحديد كيفية تحصيل أو دفع هذه الأجر، وأيضًا الوظائف المدنية المشرفة على هذه الخدمة مثل الكاتب والمباشر والناظر مع تحديد الفترة الزمنية التى تتم فيها هذه الصيانة مع تحديد أنواع هذه المنشآت المائية والتى أجملت فى الآبار والسواقى والصهاريج، مع ذكر الكثير من المصطلحات للأدوات والصناعات اللازمة لأعمال الخدمة والصيانة بهذه المنشآت المائية.

أما الدراسة الثانية فهى تمثل حجة شرعية لأحد عوام مدينة الإسكندرية مؤرخه أواسط شهر شعبان المبارك سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وألف بعد الهجرة. تضم وصفًا معماريًا متكاملاً لأحد الدور السكندرية بمواد إنشائها وعناصرها المعمارية والتى أوقفها صاحبها للصرف على مصالح صهريج مسجد سيدى أبو العباس المرسى بمدينة الإسكندرية، فقد اعتدنا أن يكون الوقف للصرف على المسجد باكمله، ولكن الواقف حدد وقفه للصرف على مصالح صهريج الجامع والمزملة المجاورة له المعدة لسقى العطاش والآدميين راجيًا ثواب توفير المياه وسقياها والتى ذكرتها الأحاديث النبوية الشريفة.

والوثيقة على جانب كبير من الأهمية نظرًا لقيمتها التاريخية والقانونية فهى صورة حقيقيه لمكونات حجة الوقف فى القرن الثالث عشر الهجرى – التاسع عشر الميلادى. بالإضافة إلى ما ورد ذكره من أسماء حارات وشوارع ترتبط بالجانب العمرانى لمدينة الإسكندرية آنذاك، وأيضًا ذكر للعملات المتداولة، بالإضافة إلى ذكر منشأة مائية ملحقة بجامع المرسى أبو العباس لم تذكرها الدراسات الأثرية التى تناولت الجامع.

أما الدراسة الثالثة والمؤرخة بالثالث عشر رجب الحرام شهور سنة ثلاث وأربعين ومائتين وألف وهى بمثابة حكم قضائى صادر من محكمة ثغر الإسكندرية تضمن أحقية ورثة عائلة المسيرى فى وقف جدهم المرحوم الشيخ محمد المسيرى الشخصية الوطنية المعروفة والتى ارتبطت بالتاريخ السياسى والحركة الوطنية بمدينة الإسكندرية أثناء الحملة الفرنسية 1213هـ - 1798م. تضمنت الوثيقة الكثير من المنشآت المعمارية مختلفة الوظائف والتى أدرجت من أملاك الورثة وذكرت بحدودها الأربعة، كما ذكرت الوثيقة الكثير من الشوارع والحارات والميادين التى كانت موجودة بمدينة الإسكندرية آنذاك بالإضافة إلى أهمية الوثيقة القانونية.

أما الدراسة الرابعة والمؤرخة بيوم الأحد الرابع والعشرين من شهر رمضان سنة تسع وعشرين وثلاثمائة وألف فهى نموذج لوقف امرأة من نساء مصر ابتغت مرضاة الله فخصصت ريع وقفها والمتمثل فى سراى كائنه بمدينة الإسكندرية لنيل هذا الرضا والغفران الإلهى وذلك بالإحسان لذوى الحاجة وشفاعة القرآن وذلك بتلاوته فى مناسبات لها دلالاتها العقائدية فى المجتمع المصرى.

والوثيقة تمثل نموذج لدور الوقف فى الروابط الاجتماعية بين فئات المجتمع ويتمثل ذلك فى عملية التوسعة على الفقراء والمساكين، والتى حرصت الواقفة على تحديد دوريتها بالإضافة إلى هذا الوصف المعمارى المتكامل لعين الوقف والمتمثل فى سراى كائن بإحدى المناطق العمرانية بمدينة الإسكندرية، وأيضًا تمثل الوثيقة أهم المتغيرات التى طرأت فى المكونات الأساسية للحجج الشرعىة فى أوائل القرن العشرين والتى جاءت نتيجة للمتغيرات السياسية والاجتماعية فى الدولة والسلطة السياسية.

أما الدراسة الخامسة والمؤرخة بثالث عشر صفر سنة ثلاثين وثلاثمائة وألف فهى إحدى الوثائق التى ترتبط بالجانب العمرانى بمدينة الإسكندرية وكيفية استخدام الاستبدال كأحد الشروط العشرة التى اصطلح عليها أغلب المتقدمين والمتأخرين من الفقهاء.

والاستبدال يقصد به بيع عين الوقف وشراء عين بدل التى بيعت لتكون وقفا بدلها مع توافر "المسوغ الشرعى" أو الضرورة الشرعىة لذلك، أما المسوغ الشرعى فيتجسد فى احتياج العين الموقوفة للمنفعة العامة، وذلك بتوسيع أحد الشوارع الرئيسية بمدينة الإسكندرية وهو شارع رأس التين، بما يضيف للوقف دورًا مهما فى تنظيم وتوسيع شوارع المدن الإسلامىة، كما تعد الدراسة أجازة حقيقية لاستبدال أرض وقف للصرف على أحد المساجد المهمة بالمدينة وتحويلها إلى منافع عمومية، لهذا تعد الدراسة نموذج فريد لطريقة كتابة مراحل وثائق الاستبدال فى بدايات القرن العشرين.

أما الدراسة السادسة والمؤرخة بالسادس عشر من شهر صفر سنة ثلاثين وثلاثمائة وألف وهى تمثل حجة وقف لأحد نساء مصر نموذج لإسهامات المرأة فى البناء المؤسسى للدولة حيث خصصت الواقفة ريع وقفها للصرف على تطوير منظومة الصحة والتعليم فى مصر فى أوائل القرن العشرين، وذلك ببناء اسبتالية مجهزة بكامل احتياجاتها ومدرسة صناعية لتعلم الحرف للذكور والإناث. والوقفية نموذج نادر جمع بين مقررات التعليم الموروث والمتمثلة فى اللغة العربية ومبادئ الدين الإسلامى ومواد التعليم الحديث من علوم صناعية وزراعية وتجارية وغيرها. كما تعبر الدراسة على درجة الوعى الذى وصلت إليه المرأة المصرية آنذاك وكيفية إدراكها للظروف السياسية التى تمر بها البلاد وكيف كان الوقف بديلاً عن الإنفاق الرسمى للدولة.