نحن

رافق الإنسان منذ ظهوره فترات من الاغتراب بىن حقىقته التى ىدركها وحقىقته التى هو علىها، اغتراب بىن ما ىسعى لإشباعه بغرض تحقىق سعادته وبىن ما كان ىجب أن ىسعى إلىه لتحقىق تلك السعادة، اغتراب بىن المثالى والواقعى، ونستطىع أن نحكم بحضور ذلك الاغتراب على مدى التارىخ الإنسانى بصفة عامة، ولكن ىتخللها أزمان متقطعة وأفراد مبعثرون ضاقت عندهم تلك الفجوة بىن المثالى والواقعى وبىن السعادة المتوهمة والسعادة الملائمة لتكوىن الإنسان وطبىعته، حتى ذاقوا سعادة فهم الذات ومعرفة الطرىق الملائم لإسعادها، فمىزوا بذلك بىن الحقىقى والمزىف فى مسببات السعادة الإنسانىة.

تزامن مع ذلك الاغتراب سعىٌ دائم نحو فهم الطبىعة الإنسانىة وفهم متطلبات مكوناتها سواء المادىة أو الروحىة، ذلك السعى الذى لازم الفلاسفة والمفكرىن كما لازم العامة والبسطاء لا سىما إذا ما اجتهدوا فى إشباع حاجة ظنوها أساسىة لإشباع احتىاجات الطبىعة الإنسانىة ثم اكتشفوا عكس ذلك، فصرفوا جهدهم نحو البحث عن إشباع آخر لعلهم ىصلوا إلى ما ىسعد أنفسهم، وما زالت تتلقفهم الأفكار المبعثرة حتى ىنتهى بهم الأجل فى التجرىب والاختبار دونما الوصول، وقد ىعمد أحدهم إلى توفىر جهده العقلى والاستكانة إلى الكسل الفكرى فىستعىر معنى وقالبًا أعده له غىره ثم ىلوى عنق طبىعته الإنسانىة حتى تتماشى مع تلك النظرة المستوردة والفكرة المستعارة، فتارة ىظن فى سعادة نفسه المادىة الكاملة، وتارة ىصفها بالروحانىة التامة وهكذا هو وغىره ىتقلبون بىن المنزلتىن قاصدىن معرفة أنفسهم بىن تجربة رأى هذا وذاك. 

وبرغم أن الإنسان قد أنفق من الوقت الكثىر فى فهم ما جادت علىه الطبىعة لإقامة حىاته، إلا أنه كان علىه أن ىنفق وقتًا وجهدًا فكرىًّا أكثر فى محاولاته لفهم نفسه وطبىعته، فقبل أن ىمد فكره وبصره إلى الخارج كان أولى به أن ىمعن فكره فى داخله وفى فهم نفسه التى بىن جنبىه، فنادرًا ما تجد إنسانًا - بعىدًا عن الفلاسفة والمفكرىن - ىنفق جهدًا ووقتا لفهم نفسه الداخلىة لىتحسس خباىاها بنفسه ولا ىلجأ لنموذج أعده له غىره من المفكرىن أو الفلاسفة. 

وقد ساد فى كل عصر وجهة نظر معىنة عن طبىعة الإنسان وتعرىف محدد للإنسان ترسخ فى أذهان أهل كل عصر وثقافة، فتارة ىتم تعرىف الإنسان على أنه حىوان ناطق وتارة أخرى ىسود تعرىف الإنسان على أنه حىوان مفكر، وىسود فى ثقافة أخرى معاملة الإنسان على أنه كائن تمىز بروح منفردة وجسد غىر مرغوب الصفات والمتطلبات، وأخرى تضفى علىه التعرىف الداروىنى المعروف، وهكذا ىسود فى كل عصر وثقافة وجهة نظر عن كىنونة الإنسان، وكلٌ من هذه النظرات إنما هى سعىٌ فى المقام الأول لفهم طبىعة الإنسان وحقىقته بغرض تحقىق السعادة أو الرضا لبنى البشر.

وهذا الكتاب ىعتبر وجهة نظر غىر متخصصة عن كىنونة الإنسان وصفاته، فهو مجرد وجهة نظر غىر معتمدة على دراسات السابقىن وأقوالهم ومحاوراتهم، ولكنها بكل تأكىد متأثرة ببعضها، إذ أن كل انتاج إنسانى لابد له من التأثر بثقافة صانعه وقىمه السابقة التكوىن فى كىانه، وانطلاقًا من قاعدة استحالة وجود انتاج إنسانى منعزل تمامًا عن ثقافة صانعه وما جمعه من فكر وطالعه من معرفة فىما سبق من حىاته، ولكنى حاولت قدر المستطاع أن أفهم تلك الطبىعة بشىء من إعادة النظر إلى معارفى السابقة أو على أقل تقدىر إعادة قراءتها بشىء من النقد المقبول للاقتراب من درجة الحىادىة المطلوبة فى مثل تلك المحاولات. 

وقد ىجد القارئ اختصارًا فى بعض المواضع وإسهابًا فى مواضع أخرى، وتكرارًا فى ثالثة، أرجو ألا ىخل ذلك بقصد هذا العمل، ولكنه تكرار مقصود لتناول الفكرة من أكثر من اتجاه، واختصار فى مواضع الاختصار لاستشعارى مشاركة القارئ فى رسوخ الفكرة التى اختصرتها، وإسهاب لمحاولة توضىح ما أقصده، وأسأل الله التوفىق فى مقصدى. 

ولقد حاولت قدر جهدى شرح وجهة نظرى الخاصة فى فهم بعض الصفات المادىة التى تمىز الإنسان عن غىره كما عددها بعض السابقىن واعتبروها هى المعرفة للإنسان، كالعقل والنطق والصفات الجسمانىة، وبإلقاء نظرة سرىعة عن العالم المدرك عند الإنسان وطبىعة ما هو موجود وما هو غىر مدرك، ثم حاولت فهم ما ىمىز الإنسان فىما وراء المادة والبحث فى جوهره وصفاته، وكىف ىبنى الإنسان مجتمعه الإنسانى المختلف عن القطعان والزمر الحىوانىة بما ىناسب صفاته واحتىاجاته الإنسانىة وما ىحتاجه لاستمرار هذه المجتمعات من مقومات غىر مرئىة معظمها صفات فردىة تؤثر فى العلاقة الاجتماعىة، فقد حاولت قراءة الإنسان من خلال تارىخه الإنسانى ودوافعه كإنسان وكصانع الأحداث، ولىس معرفة الإنسان من خلال التفسىرات المادىة للتارىخ الإنسانى أو الاعتماد فقط على الدوافع النفعىة المادىة. 

قد لا ىعطى ذلك الجهد صورة مكتملة لكىنونة الإنسان، أو أنها صورة ىنقصها أشىاء من وجهة نظر غىرى، أو ىتطلبها أشىاء لم أشر إلىها، وأنا أقر بذلك، حىث قصدت ذلك وأتفهمه، فلا ىوجد عمل إنسانى مكتمل الأركان، فتلك هى طبىعة العقل الإنسانى، وقد نحمله ما لا ىطىق إن كلفناه بالكمال، ومن الجهة الأخرى فإن الهدف الرئىسى ومقصد ذلك العمل إنما هو الدفع والتحفىز للتفكىر وطرْق أبواب التفكر عند القراء ولىس تقدىم إجابة مكتملة لما ىبحث عنه القارئ، فسىجد القارئ أنه ىطرق أبوابًا لأسئلة لا نجد إجاباتها إلا خلف أسوار أجسادنا، فاترك عقلك ىسبح فى نفسك لتعرف ماهىتها ومتطلباتها. فهذا العمل إنما هو دعوة للمشاركة فى التفكىر والمشاركة فى النقاش الذهنى والفكرى بىن القارئ والكتاب، وهذا السلوك إنما هو بداىة عمل هذا الكتاب الذى ىعتبر ناتج استثارة ذهنىة وفكرىة لسؤال أحد الأقرباء إلى نفسى عما ىرىد الإنسان!!. فتلك دعوة للانفكاك من ظاهرة إنابة غىرنا فى التفكىر لنا، ودعوة لتولى زمام التفكىر وفهم أنفسنا بأنفسنا، وعدم الاعتماد على قوالب جاهزة أعدها لنا غىرنا وتركنا نضع بها أنفسنا لنجرى فى فلك نظرته هو فى إنسانىتنا، وهى استثارة لحنىن أنفسنا إلى أنفسنا بعدما تغربنا عنها فى خضم المادىة التى انغمس فىها فكرنا ودار فى فلكها.