اللسانيات والمعجميات أطر التنظير واتجاهات التطبيق
تعد صناعة المعاجم من الصناعات التي عرفتها البشرية منذ فجر الحضارة؛ فأولى النماذج المعروفة للمعجم يرجع تاريخها إلى الألفية الثانية قبل الميلاد." ورغم هذا التاريخ السحيق إلا أنها صناعة ظلت حتى فترة قريبة لا تعتمد إلا على خبرة المعجميّ، ومهارته، والتحليل الذاتي، والاستنتاجات الحدسية". كذلك كان اتباع طرق الصناعة التقليدية هي السمة البارزة فيها؛ فصناع المعجم ثلاثة صنوف؛ صنف يتبع الطريقة التقليدية التي تمتد لقرون لصناعة المعجم، وصنف ثانٍ يعمل على مراجعة معجم قديم، وتحديثه لإنتاج إصدار جديد، وصنف ثالث يحاول الخروج عن الطرق التقليدية، وخلق مسار جديد لصناعة المعجم. لكن هذا الصنف الثالث -أيضًا- يعتمد على عمل الأجيال السابقة من المعجميين سواء في تحديد قائمة الكلمات الرئيسية، أو في تحديد المعلومات التي يجب تقديمها. كذلك ظلت تلك الصناعة لقرون طويلة اجتهادًا تطبيقيًا لا تنظير له. وبعبارة أخرى، فإنه كلما ظهرت حاجة إلى أعمال مرجعية محددة، تم تجميع القواميس لتلبيتها، لكن مؤلفي القواميس لم يفكروا في إدراج أعمالهم تحت عنوان عام، ناهيك عن ابتكار إطار نظري يأطر العمل المعجمي.
واستمر الأمر كذلك ثم ظهرت عملية مهمة تعنى بتطوير الصناعة المعجمية، وتحسينها. وتقوم على دراسة المعاجم، ومراجعتها، ونقدها، ويطلق عليها عملية نقد المعجم dictionary criticism، والتي تعرَّف بأنها عملية "تقييم المنتجات المعجمية". ومن أهداف هذه العملية إنشاء أساسٍ سليمٍ ودقيق لإجراء النقد، جنباً إلى جنب مع مجموعة من المعايير المعمول بها. ولأنه من العسير قراءة النص الكامل للمعجم قراءة ناقدة، اعتمد نقد المعجم طرقاً أخرى مثل أخذ العينات، أو وجود قائمة تحقق مختارة بعناية من العناصر، والميزات للتحقيق فيها.
وعلى الرغم من أن ممارسة "نقد المعجم" مازالت مستمرةً، إلا أنه على عكس النقد الأدبي -الذي هو نظام راسخ في حد ذاته- لا يزال نقد المعجم عملًا عشوائيًا، غير مطور. وما زالت أغلب عمليات النقد المعجمي تفتقر إلى الصلاحية، والموثوقية، وكثير منها يعاني من التحيز الشخصي بدلًا من تطبيق معايير موضوعية. لذلك لم تؤت جهود نقد المعجم ثمارها، ولم تحقق أهم أهدافها؛ حيث لم تنجح في تأسيس نظرية متكملة لنقد المعجم. وما زالت عملية نقد المعجم تحتاج مناقشة أوسع لتصبح معايير تقييم المعجم أكثر موضوعية، وأكثر وضوحًا. كما تحتاج إلى تأسيس نظرية محكمة لنقد المعجم تجمع كل مجالات البحث المعجمية.
وعلى الرغم من تعثرها في تحقيق أهدافها إلا أن عملية نقد المعجم أبرزت أن التنظير لصناعة المعجم لا يعد عملية يسيرة. وأن مهمة إيجاد معايير منضبطة لصناعة المعجم -مازالت- مهمة شاقة بالفعل. وأن المعايير المتفق عليها لتقييم جودة المعجم نادرة الوجود، وربما هي غير موجودة على الإطلاق. وإذا أضفنا إلى هذا أن بعض الأوساط العلمية ظلت فترة طويلة تنظر إلى صناعة المعاجم على أنها صناعة عملية بحتة لا تستحق الاهتمام العلمي أو أنها صناعة "لم تصبح علماً بعد، وربما لن تصبح علماً أبداً" فإنه يمكننا أن نفسر اتساع الفجوة الزمنية الكبيرة بين التطبيق والتنظير في الصناعة المعجمية. ويمكن كذلك أن نستشعر أهمية الدور الذي قامت به اللسانيات في خدمة الصناعة المعجمية.
مثلت اللسانيات نقطة تحول مهمة في الصناعة المعجمية حيث دخلت المعاجم -بوصفها مصنفات لغوية- بؤرة اهتمام اللسانيات واللسانيين. ومن ثم ظهرت جمعيات علمية أكاديمية معجمية، وقامت دراسات لسانية جادة تطورت إلى إنشاء فرع من اللسانيات التطبيقية تخصص في دراسة المعاجم. هذا الفرع من اللسانيات أطلق عليه " Lexicography"، ونقل إلى العربية ببعض المقابلات أشهرها "صناعة المعاجم"، "صناعة معجميّة"، "قاموسيّة"، "معجميّات"، "معجميّة"، كذلك ثمة اقتراح انفرد محي الدين محسب بالسبق إليه منذ ١٩٩٧م وهو مقابلة lexicography بـ"القاموسيات". إلا أنني أفضل استخدام "المعجميّات" لمقابلة مصطلح lexicography حرصاً على أن تكون المنظومة المفهومية لمصطلح "معجم" منظومة متكاملة. كذلك لأن مصطلح "المعجميّات" لا لبس في دلالته المفهومية داخل اللسانيات؛ حيث لا يستخدم للدلالة على مفاهيم أخرى، كما أنه سهل في اشتقاق منظومته المفهومية، إضافة لاعتماد "المعجميات" لمقابلة مصطلح lexicography من مؤسستين كبيرتين هما مجمع اللغة العربية المصري، ومكتب تنسيق التعريب.
والمعجميّات عرفها كلوفير cluver بأنها نشاط، أو مهنة كتابة المعاجم وتحريرها. لكن هذا التعريف يهمل جانبًا مهمًا هو جانب التنظير المعجمي، لهذا فإنني أميل إلى تعريف آخر يعرف المعجميات بأنها: النشاط المتخصص، والمجال الأكاديمي المعني بالمعاجم. وينقسم إلى قسمين رئيسين: الممارسة المعجمية، أو صناعة المعجم dictionary-making، والتنظير المعجمي، أو البحث المعجمي dictionary research. وعادة يرتبط القسم الأول بنشر الكتب التجارية، ويرتبط الأخير بالدراسات العلمية.
والحقيقة هي أن الدور التنظيري للسانيات لم يتوقف عند المعجميات، بل ظهر من المناهج اللسانية ما فتح آفاقًا تنظيرية مهمة خدمت المعجم، وصناعته. فظهر علم "ما وراء المعجميات" metalexicography الذي يعتني من بين أمور أخرى بنقد المعجم، واقتراح طرق ومعايير لمراجعة المعاجم وتقييمها. أي هو العلم الذي يُعنى بالبحوث التي تقوم على المنتج النهائي للمعجم. كذلك لمزيد من التخصص التنظيري تفرع من المعجميات Lexicography علم آخر هو المعجميات المصطلحية Terminography التي تتعامل مع توثيق المصطلحات التقنية والعلمية في المجالات المختلفة. أي أن المعجميات غالباً ما توثق الكلمات في مفردات اللغة العامة، والمعجميات المصطلحية توثق مصطلحات مجالات موضوعية محددة." بالإضافة إلى أن أحد الأهداف المهمة للمعجميات المصطلحية هو ترتيب أنظمة المفاهيم لمجالات الموضوع.
وثمة نقاط التقاء بين المعجميات، والمعجميات الاصطلاحية، منها: أنه بشكل عام يستخدم مؤلف المعاجم -اللغوية أو الاصطلاحية- المبادئ والإجراءات الأساسية نفسها لتوثيق الكلمات والمصطلحات على التوالي. كذلك في كلتا الصناعتين يتم استخدام الأساليب الأساسية نفسها لوصف مفهوم الكلمة أو المصطلح. إلا أنه على الرغم من نقاط الالتقاء تلك، فثمة نقاط اختلاف تؤكد أن هاتين الصناعتين متمايزتان بوضوح في مناطق عمل محددة. وأنه لا يمكن أن يتولى اختصاصي المعجميات مهمة المعجميات الاصطلاحية، والعكس صحيح.
وإضافة للمعجميّات نجد مناهج لسانية أخري قدمت آليات تطبيقية ومقترحات تنظيرية مهمة للمعجميّات. ومن ذلك -على سبيل المثال- ما اقترحته اللسانيات التايبولوجية في منتصف القرن العشرين من تصنيفات متنوعة تستهدف تنظيم المعاجم على المستوى المفاهيمي. كما أن قفزة حقيقة في دراسة المعجميات أسهمت فيها لسانيات المدونات Corpus Linguistics. فقد كانت المعجميات قبل لسانيات المدونات تعتمد -إلى حد كبير- على حدس المعجميين المدربين في تحليل المواد، وكتابة التعريف، واختيار الكلمات الرئيسية على أساس الأهمية المدركة، والتعامل مع تعدد المرادفات، لكن هذا الأمر تغير بمساعدة لسانيات المدونات التي حوَّلت العمليات القائمة على الحدس إلى عمليات تحليل إلكتروني لمدونات فائقة الحجم مبني على أساس النظرة السياقية للمعنى. وبالاستعانة بلسانيات المدونات ظهر إلى النور أحد المعاجم المهمة، وهو معجم كوبيلد COBUILD الذي أعدته جامعة كولنز برمنجهام.
من هذا الاستعراض الموجز يتضح لنا أن كل تطور للمناهج اللسانية الحديثة مثَّل أهمية للمعجميات. ولهذا جاء هذا الكتاب ليقدم نماذج منتقاة من المناهج اللسانية الحديثة التي قدمت أطراً نظرية، أو مناهج تطبيقية تستطيع أن تعالج إشكاليات معجمية مهمة، وأن تستخرج نتائج دالة، وأن تقترح حلولاً منهجية قابلة للتطبيق لتحسين المعجميات العربية.