فسيولوجيا الجهاز الدوري (الدم - جهاز النقل في الثدييات - القلب)

تتمثل الوظيفة الأساسية للجهاز الدورى فى نقل جميع المواد الضرورية إلى جميع أنحاء الجـسم. ويلاحـظ أن بعـض المـواد تسـبح بنفسها فـى الـدم فى حين تتجول الأخرى (الغازات بصفة أساسية) محمولة بواسطة خلايا الدم الحمراء. ويوجد فى كل ملليمتر مكعب من الدم 5,4 – 5 مليون خلية يبلغ مجموعها. 000,000,000,000,35 كرية حمراء ... وحجم خلية أو كرية حمراء ضئيل للغاية حيث يصل إلى 8 ميكرون فقط. ولكن إذا صنعت منها سلسلة من قبيل الإفتراض فسوف نحصل على شريط يمكن بواسطته إحاطة الكرة الأرضية عند خط الأستواء سبع مرات. أما خلايا الدم الحمراء الموجودة فى دم الحوت (أكبر مخلوقات الكوكب) فأغلب الظن أنها ستشكل عدة سلاسل يمتد كل منها إلى الشمس.

         ولم يتطور جهاز النقل فى الحيوانات مرة واحدة. فعندما اندمجت جزيئات المادة الحية مع بعضها لأول مرة مكونة كائنات حية تتكون من خلية واحدة فإنها قد أحيطت بغشاء قام بعزلها عن مياه المحيط. وبحثت هذه الخلية الحية عن وسيلة تنظم بها نقل المواد داخل جسمها. وسرعان ما تم التوصل إلى الحل. والخلية فى واقع الأمر ما هى إلا محيط مجهرى (صغير جدا) تموج محتوياته بتياراته الخاصة. وقد بقيت هذه الوسيلة البدائية لجهاز النقل داخل الخلية. فبروتوبلازم أية خلية من خلايا أجسامنا فى تحرك دائم. وتوجد هذه الحركة (التيار) البروتوبلازمية فى الخلايا العصبية أيضا.

         وقد اضطرت الحيوانات عديدة الخلايا إلى تنظيم جهاز أكثر تعقيدا. وأكثر الأجهزة بدائية هو ما يوجد فى الاسفنجيات، فهى تستخدم الماء الذى تعيش فيه. وقد تبين لها أن تيارات المحيط ليست مأمونة، ولذلك لم تعتمد الإسفنجيات عليها بل لجأت إلى مساعدة الأهداب لترغم بواسطتها ماء البحر على المرور فى قنوات مسام جسمها، موصلة الغذاء والأكسجين إلى جميع أجزاء الجسم.

        وقد انعزلت الحيوانات الراقية تماما عن المحيط، وامتلكت حوضا خاصا بها لاحتياجات النقل. وأكبر "الأحواض" فى أيامنا هو ما تمتلكه الرخويات البطن قدمية، إذ يساوى 90% من حجم الجسم. وعلى ما يبدو، تبين أن ذلك فيه رفاهية كبيرة. ففى يرقات الحشرات لا يتعدى "الحوض" 40% من وزن الجسم أما فى الحشرات تامة النمو فيبلغ 25% وفى الطيور والثدييات يكون الحوض أقل من ذلك حيث يصل إلى 7 – 10 % فقط . وأصغر المستودعات المائية هو الذى تمتلكه الأسماك والذى يشكل 5,1 – 3 % فقط من وزن الجسم.

        وكلما كان حجم "الحوض" الذى يمتلكه الحيوان صغيرا كلما اضطر إلى استخدامه بنشاط أكبر وكلما كانت سرعة التيار اللازم بداخله أكبر حتى يمكن استخدام نفس السائل عدة مرات. وليس غريبا، أن تسمح الحشرات لنفسها بالرفاهية، فتيار "حوضها" بطئ جدا حيث يقوم بعمل دورة كاملة فى غضون 30 – 35 دقيقة. وأنت وأنا لا نستطيع أن نسمح بمثل هذه الرفاهية فى جسمينا. فدم "حوضنا الداخلى" يتم دورته الكاملة بالجسم فى بحر 23 ثانية ويعمل فى الـ 24 سـاعة 3700 دورة، وهذا ليس أقصى حد. فالكلب يمضى فى الدورة الكاملة 16 ثانية والأرنب 5,7 ثانية. أما الحيوانات الأصغر فأقل من ذلك.

         والملاحظ أن الأمر يزداد تعقيدا فى الحيوانات الفقارية حيث يقل لديها السائل الموجود فى الحوض. والمعروف أن الأعضاء التى تعمل بنشاط زائد هى التى تمد بالدم بصفة مستمرة. ولذلك يستحيل قيام عدد من الأعضاء بالعمل بنفس النشاط فى وقت واحد. فبعد وجبة غذائية دسمة تصبح أعضاء الهضم هى الأكثر نشاطا، لذلك يتجه نحوها جزء كبير من الدم، وتصبح كمية الدم الذاهبة إلى المخ واللازمة لنشاطه العادى أقل ولذلك نشعر بالنعاس.

        وحتى يمكن تحريك سائل الحوض الداخلى، كان من الضرورى وجود تركيب يختلف فى جوهره عن الجهاز الهدبى فى الاسفنجيات. واتضح أن المضخة العضلية هى الأكثر أمانا، وكانت فى بادئ الأمر عبارة عن وعاء دموى نابض، والذى مثل أبسط القلوب تركيبا، وهو يدفع الدم فى أوعية أصغر ومنها إلى المسافات الموجودة بين الأنسجة وبين الخلايا. وبعد أن يغسلها يعود ثانية إلى الوعاء النابض. وفى مثل هذا النظام المفتوح يكون من الصعب جدا تنظيم دورة سليمة. ولذلك ظهرت فى الحشرات (أرقى ممثلى الحيوانات اللافقارية) مضخات لا تقوم بالدفع فحسب بل والامتصاص. ولذلك يلاحظ أن القلب فى هذه المخلوقات معلق بحرية على عضلات خاصة تشبه الأجنحة والتى تقوم بمطه محدثه ضغطا سالبا يمتص السائل المار خلال الأنسجة.

        وينظر إلى الوعاء النابض على أنه وحدة ميكانيكية ذات كفاءة منخفضة ولذلك فإن الحيوانات الدفيئة تمتلك العديد من المضخات. ففى دودة الأرض يوجد وعاء نابض رئيسى يمتد خلال الجسم كله ويقوم بدفع الدم من النهاية الخلفية إلى الأمامية، وفى الطريق يتفرع إلى أوعية جانبية هى عبارة عن قلوب تقوم بدفع الدم فى شرايين أصغر. وتعمل جميع هذه القلوب العديدة وفقا لما يحلو لكل منها. وفى أحسن الأحوال قد تنسق عملها مع رفيقها فى نفس الحلقة، ولا ينتشر هذا التنظيم لأكثر من ذلك.

       وكان من الأنسب للحيوانات الراقية الإنعزال ليس عن المحيط الخارجى فحسب بل وعن الداخى أيضا حيث امتلكت جهازا دوريا مغلقا. ومع أن المجرى الرئيسى للنهر الداخلى (الجهاز الدورى للحيوانات الثديية) مغلق إلا أنه يصب فيه العديد من النهيرات (الأوعية الليمفاوية) التى يندفع فيها السائل من بين الأنسجة ومن بين الخلايا.

       وبهذه الطريقة انعزلت الأنسجة والأعضاء تماما عن تسرب مياه المحيط الداخلى مباشرة إليها ولكنها احتفظت لنفسها بحق صب مياهها فى هذا المخزن المتحرك. وبطبيعة الحال يكون إنعزال المحيط الداخلى نسبى جدا. ففى الجزء الشريانى من الشعيرات الدموية التى تتميز برقة جدرانها وبارتفاع ضغط الدم بداخلها يتم تسرب كمية معينة من السائل إلى المسافات الموجودة بين الخلايا. وحيث أن الشواطئ (جدران الشعيرات) نفسها ليست فى حالة تمكنها من الاحتفاظ بالسـائـل فـإن خـروجـه كان يمـكن أن يكـون بكميات أكبر لولا كبـر ضغط الدم الغروى (الناتج عن البروتينات الذائبة فيه) الذى لا يسمح للماء بترك مجرى الدم بكمية غير مناسبة.

        وأثناء الراحة تترشح كمية قليلة من الماء خلال جدران الشعيرات الدموية إلى الأنسجة وتعود إلى الجزء الوريدى من الشعيرات الدموية حيث يكون ضغط الدم بداخلها أقل من الضغط فى الجزء الشريانى من الشعيرات وأقل من ضغط البلازما الغروى ومن ثم يبدأ السائل فى الدخول بنشاط إلى البلازما حيث تجذبه البروتينات الذائبة بها. ويلاحظ أن القوة التى فى الجزء الوريدى من الشعيرات والتى ترغم السائل على العودة إلى مجرى الدم أكبر مرتين من تلك التى توجد فى الجزء الشريانى والتى تضطر السائل إلى الخروج فى المساات بين الأنسجة.

        وتختلف الصورة أثناء المجهود. ففى هذه الحالة يكون ضغط الدم فى الجزء الشريانى من الشعيرات الدموية من الارتفاع لدرجة أن جدرانه لا يمكنها أن تحتفظ ليس بالماء فحسب بل وبالبروتينات أيضا (جزء من البروتينات). وسيبقى ضغط الدم فى الجزء الوريدى من الشعيرات الدموية على درجة كافية من الارتفاع أما الضغط الغروى فينخفض نتيجة لفقد البروتينات وسوف لا تتوفر للسائل إمكانية للعودة إلى مجرى الدم. ويبقى أمام السائل طريق واحد وهو ذلك المتمثل فى الجهاز الليمفاوى. وبهذه الطريقة نجد أن الجهاز الليمفاوى يؤدى فى الجسم وظيفة مجارى مدننا والتى تحمى الطرق والميادين من الغرق عند حدوث السيول والعواصف الرعدية.

ويمكن الظن بأن وجود جهاز مغلق يسهل من عمل القلب .. الحقيقة غير ذلك .. تلزم فى الواقع قوة لا يستهان بها لكى يمكن دفع الدم خلال الشعيرات وأصغر الشرايين. وعلى الرغم من أنه مع تفرع الشرايين يزداد المسطح الكلى لمقطعها ويصبح فى النهاية أكبر بـ 800 مرة من مقطع الأورطى الذى يندفع فيه الدم الخارج من القلب فإن المقاومة تزداد نتيجة لذلك فقط. ونحن نمتلك من 100 – 160 مليار وعاء شعرى، يبلغ طولها جميعا 60 – 80 ألف كيلومتر. وقد وجد العالم الروسى الشهير تسيون بالحساب أنه خلال حياة الإنسان ينجح القلب فى إنجاز عمل يساوى قوة تكفى لرفع قطار كامل مكون من مجموعة من العربات إلى أعلى قمة فى أوروبا (مونت بلانش – الجبل الأبيض) أى لإرتفاع 4810 متر.

         وحتى الشخص الذى يكون فى حالة سكون نسبى يدفع قلبه 6 لترات من الدم فى الدقيقة (ليس بأقل من 6 – 10 أطنان فى اليوم) وفى خلال عمرنا يمر خلال قلبنا 150 – 250 ألف طن من الدم. ولا يستطيع الإنسان أن يفخر بذلك.

        وبما أنه يصعب مقارنة عمل قلب الحيوانات الكبيرة والصغيرة فإن العلماء يحسبون عادة كمية الدم التى يدفعها القلب فى الدقيقة لكل 100 جرام من وزن الجسم. وبحسبة بسيطة يتضح أنه حتى القوقعة البطيئة يبذل قلبها نفس المجهود تقريبا الذى يبذله قلب الإنسان. أما فى معظم الحيوانات فهو يعمل بنشاط أكبر بكثير. فقلب الكلب يدفع كمية من الدم أكبر بمرتين تقريبا أما قلب القط فأكبر حتى بعشرة مرات من قلب الإنسان.

        ونتيجة لذلك يتولد ضغط مرتفع جدا. وعادة كلما كبر حجم الحيوان كلما كان ضغطه أعلى. ويشاهد ذلك بوضوح فى ثعابين الماء وأسماك القرش وفى الأسماك الأخرى التى تختلف أحجامها اختلافا بينا. فكلما كان ثعبان الماء أو سمك القرش طويلا كلما كان ضغطه أعلى إلا أنه رغما عن ذلك توجد شواذ عن هذه القاعدة.

         ومعظم الحيوانات التى تعيش على الأرض أفقية حيث يقع المخ والقلب وهما أهم عضوين لديها فى مستوى واحد. ويكون هذا الوضع مريحا للغاية، إذ ليست هناك حاجة لبذل مجهود إضافى حتى يمكن إمداد المخ بالدم. ويختلف الأمر فى الإنسان الذى يقع دماغة عند مستوى أعلى بكثير بالنسبة لقلبه. ويشاهد نفس الأمر فى الزرافة التى يبلغ طولها ستة أمتار ويكون قلبها أوطى بـ 2 – 3 أمتار عن دماغها. ويكون ضغط الدم الذى فى مثل هذه المخلوقات (الديك – الإنسان – الزرافة) مرتفعا.

        ولكى يمكن المحافظة على استمرار إمداد الدم على المستوى المطلوب، لابد من توفير ضغط مرتفع. ومن ناحية أخرى كلما كان الضغط مرتفعا كلما كان احتمال حدوث المتاعب كبيرا. ففى أى لحظة قد يحدث انفجار فى وعاء دموى كبير يؤدى لا محالة إلى الموت السريع بسبب فقد كمية كبيرة من الدم.

        وحتى لا يتعدى الضغط فى الجهاز الدورى معدله الطبيعى توجد أجهزة خاصة للمراقبة تتمثل فى مستقبلات الضغط. وفى الحيوانات الثديية توجد هذه المستقبلات فى قوس الأورطى، وفى جيوب الشرايين السباتية، التى تحمل الدم إلى المخ وغير ذلك. وتقوم الأوعية الدموية بدور رئيسى فى المحافظة على ضغط الدم عند معدله الطبيعى وتنظيمه. فجدران الأوعية الدموية الصغيرة مجهزة بعضلات تغير قطرها بسهوله. فعندما تنقبض تشكل عائقا محددا لتيار الدم ينجم عنه إرتفاع الضغط، وعندما تنبسط ينخفض الضغط. وهكذا تلعب دورها فى المحافظة على ضغط الدم عند المستوى المناسب.

         وينقبض القلب مدى الحياة بلا كلل أو ملل وهو بهذا يكون أعجوبة بيولوجية بل هو من حيث تكوينه وأسلوب عمله يمثل معجزة كبرى من معجزات الخلق والإبداع فى أجسامنا وفى أجسام غيرنا من الكائنات .. وينقبض فى الكتلة الصغيرة من خلايا جنين الكتكوت الذى عمره 29 ساعة شئ ما ويدفع السائل إلى مكان ما .. ما الـذى يدفع القلـب إلى الإنقبـاض؟ .. مـن أمـر قلب الدجـاجة بـأن يبـدأ العمل ؟ .. لا توجد بهذا الجنين ولو لمحة عن وجود المخ الذى يقود الجسم فيما بعد.

         وحتى فى الحيوان التام النمو، مع أن القلب يطيع أوامر المخ فيغير معدل عمله من الإبطاء إلى الإسراع أو العكس، إلا أن القلوب تعمل ذاتيا بمحض إرادتها. وهى فى عملها الذاتى هذا تخضع لأوامر قيادية. وبدون هذه الأوامر لا يمكن أن يتم تنسيق عمل أجزاء القلب المختلفة. ويوجد مركز القيادة فى الطيور والثدييات فى مكان خاص بالقلب يسمى العقدة الجيبية الأذينية.

        ولا تحتوى عضلة القلب على أعصاب وتسرى الأوامر فى الألياف العضلية بسرعة متر واحد فى الثانية. ولأن قلب الحيوانات الفقارية يتصف بالذاتية فى عمله فإنه يستطيع أن ينبض حتى وهو معزول عن الجسم. ويجرى الاختبار الأول لجميع العقاقير الطبية الجديدة الخاصة بعلاج أمراض القلب على قلوب ضفادع معزولة لأنها تحتفظ بقدرتها على العمل لعدة ساعات إذا كانت ظروف الاختبار مناسبة.

         وهناك اعتقاد شائع وخاطئ فحواه أن الموت لابد وأن يعنى توقف عمل القلب. وفى الواقع يخالف هذا الاعتقاد الحقيقة. فقد استطاع الطبيب الروسى أندريف أن يجعل قلب طفل حديث الولادة ينقبض بعد مرور أربعة أيام على الظن بموته.

         ومنذ مئات السنين لم يخطر ذلك على بال أحد. فالعالم المشهور أندريه فيزاليه ، طبيب الامبراطور كارل الخامس، والذى كان ضمن عدد قليل من العلماء الذين منحوا حق تشريح جثث الموتى حكم عليه ديوان التفتيش المقدس بالإعدام شنقا لاتهامه بأنه شرح امرأة وهى لا تزال حية. وقد قام ولى العهد فيليب الثانى باستبدال هذا الحكم غير العادل الرهيب بالتوبة والحج إلى الأماكن المقدسة فى جبل سيناء وفى القدس. وقد قضى فيزاليه نحبه هناك.

        وسبب اتهام الطبيب ذائع الصيت فى عصره هو انقباض قلب التى قطع بموتها حيث قام فيزاليه بتشريحها فى وجود عدد كبير من المشاهدين. ولا يمكن الآن تحديد السبب الذى جعل قلب المرأة يبدأ فى العمل بعد مرور عدة ساعات على إعلان وفاتها ... لقد اعتقد الجميع أنه قد تم تشريح المرأة وهى حية وبالفعل كانت لا تزال على قيد الحياة.

        وعندما نلقى نظرة مجملة على وظائف الدم نجد أن الوظيفة الأساسية له هى وظيفة النقل. فهو يأخذ من الأمعاء المواد الغذائية التى تم امتصاصها ويقوم بتوزيعها إلى الأنسجة المختلفة كما أنه ينقل الأكسجين من الرئتين إلى خلايا الجسم وينقل نواتج الميتابوليزم من الأنسجة إلى أعضاء الإخراج ويقوم الدم أيضا بحمل الهرمونات من أماكن إنتاجها لكى تؤدى دورها الحيوى فى الأنسجة المستهدفة.

 ويتم نقل الأكسجين من الرئتين من خلال ارتباطه بالصبغة التنفسية المعروفة باسم الهيموجلوبين. وبطبيعة الحال يتم احتواء الهيموجلوبين داخل خلايا الدم الحمراء التى تعد بمثابة أوعية تحمله.

          وخلايا الدم الحمراء فى معظم الحيوانات الثديية مستديرة ولكن لسبب غير معروف تتغير أشكالها فتصبح بيضاوية كما فى الجمال وحيوانات اللامة. وقد يمكن تقليل سمكها إلى أقصى درجة. وبذلك اختصر طريق انتشار الأكسجين فى عمق كرية الدم الحمراء إلى أبعد حد. وعلاوة على ذلك تكون الخلايا الحمراء فى دم الإنسان مقعرة الوجهين وهو الأمر الذى يساعد على تقليل حجم الخلية ويزيد من مساحة سطحها.

          وليس الدم بمثابة وظيفة نقل فحسب ولكنه يضطلع بوظائف أخرى هامة. فالدم أثناء تحركه داخل أوعية الجسم يكاد يلامس البيئة المحيطة مباشرة عندما يمر فى الرئتين وفى الأمعاء. ومما لا شك فيه أن الرئتين والأمعاء بصفة خاصة إنما تمثل أكثر أماكن الجسم تلوثا. وليس بالمستغرب أن تنفذ الميكروبات إلى الدم فى هذه الأماكن بسهولة .. ومن هنا فإنه إذا لم يوضع عند منافذ الدخول حراس غلاظ شداد، يصبح طريق حياة الجسم هو سبيل هلاكه.

          وما الحراس الأشداء سوى ما نسميه اليوم بالخلايا الدموية البيضاء. وهذه فى الواقع هى أكبر خلايا دم الإنسان حيث يتراوح قطرها بين 8 – 20 ميكرون. ووفقا لما يقوله العلماء ظلت الكريات البيضاء لمدة طويلة تشترك فى عمليات الهضم، وهى تؤدى هذه الوظيفة حتى فى البرمائيات المعاصرة. ولذلك ليس من الغريب أن تكون أعدادها كبيرة جدا فى الحيوانات الأقل تطورا. ففى الأسماك يحتوى الملليمتر المكعب الواحد من الدم على 80 ألف كرية بيضاء أى أكثر بعشر مرات مما هو موجود فى الإنسان السليم.

          وحتى يمكن الصراع مع العوامل الممرضة بنجاح، فإنه لا مناص من وجود عدد كبير جدا من خلايا الدم البيضاء التى ينتجها الجسم بأعداد هائلة. ولم يستطع العلماء حتى الآن تحديد طول عمر هذه الخلايا الباسلة ، ومن المشكوك فيه إمكانية تحديد عمرها على وجه الدقة ... إنها جنود والجنود عادة لا تعمر طويلا بل تقضى نحبها أثناء القتال فى سبيل غايتها العظمى وهى الإبقاء على الجسم سليما معافى. ومن المحتمل أن يكون هذا هو السبب فى الحصول على أرقام متباينة تماما لطول حياتها فى الحيوانات المختلفة وفى الظروف المتباينة للتجارب حيث تراوحت بين 23 دقيقة و 15 يوما. وقد أمكن فقط تحديد طول عمر الخلايا الليمفاوية وهى أحد ضروب خلايا الدم البيضاء بدقة أكبر إذ يتراوح من 10 – 12 ساعة.

          ولا تكتفى خلايا الدم البيضاء بالتواجد داخل مجرى الدم بل يمكنها تركه بسهولة عند الضرورة حيث تتوغل فى الأنسجة لكى تواجه الميكروبات التى دخلتها. وبالتهامها للميكربات تتسمم خلايا الدم البيضاء بسمومها شديدة الفعالية وتقتل ولكن لا يحدث استسلام ومن ثم تندفع موجات وراء موجات من الخلايا المحاربة نحو بؤرة المرض.

          وتزحف خلايا الدم البيضاء على سطح الأغشية المخاطية بأعداد هائلة حيث توجد دائما أعداد كبيرة من الميكروبات. ولا تتصارع الخلايا البيضاء مع الميكروبات فحسب ولكنها تقوم بوظيفة أخرى فى غاية الأهمية وهى التخلص من جميع الخلايا التالفة أو التى اعتراها البلى.

ويلعب تجلط الدم دورا كبيرا فى وقف النزيف عند تعرض الجسم للجروح. ولا نستطيع فى هذا الصدد أن نغفل دور الصفائح الدموية التى هى بمثابة خلايا خاصة ذات شكل مغزلى، يبلغ حجمها 2 – 4 ميكرون فقط. والواقع أن عملية التجلط (تكوين الجلطة) هى عملية معقدة يشارك فيها الكثير من المواد أو العوامل الفعالة.

         وأخيرا فإن الدم هو النهر البديع الدافق الذى نشعر جميعا بأهميته فى إرواء شجرة الحياة الباسقة. ومن منا يجهل ما هو سائد فى أقوالنا الشائعة عن الدم ... إننا نصف الرجل حاد الطباع بأن دمه حار ، والارستقراطى بذى الدم الأزرق ، والشجاع بقوى القلب أما الجبان فهو ضعيف القلب ... وهناك من الناس من ينظر إلى القلب على أنه مصدر العاطفة وأن الدم هو المرادف للحياة ، ولله فى خلقه شئون ...