ضمانات التقاضي
إن هذه الدراسة تتناول ( ضمانات التقاضي أمام المحاكم الدائمة بالشعب المسلح ) حيث أن الشعب المسلح باعتباره يضم أفراداً كثيرين ينفردون بمهام وواجبات وظروف مختلفة كلياً عن بقية أجهزة الدولة فهي مهام ذات طبيعة خاصة والإخلال بأدائها على الوجه الأكمل يهدد أمن الدولة وسلامة المجتمع سواء ذلك في زمن الحرب أو زمن السلم ، وحيث أن الإخلال بهذه الواجبات من قبل كل فرد في المؤسسة العسكرية يعرضه لعقوبات قاسية قد تفقده حياته ومستقبله ، لذلك حرص المشرع من جهة أخرى على وضع قواعد قانونية تكفل للمتهم العسكري ضمانات تمكنه من التمتع بمحاكمة عادلة ونزيهة وهذا ما أكده القائد الأعلى للشعب المسلح ، حيث أصدر القرار رقم ( 6/1430) بإنشاء الهيئة العامة للقضاء بالشعب المسلح، و أصدر المشرع الليبي القانون رقم (37/1974) العقوبات العسكرية، والقانون رقم ( 1/1429) بإصدار الإجراءات الجنائية في الشعب المسلح وما ورد عليه من إحالة إلى قانون الإجراءات الجنائية العام .
والذي دفعني لاختيار هذا الموضوع هو أهميته، حيث أن ضمان الحقوق أمام القضاء العسكري أصبح من الموضوعات المهمة التي لا تقل أهميةً عما هو معمول به أمام القضاء العادي، فالقضاء العسكري ما هو إلا قضاء خاص أنيطت به محاكمة فئة خاصة من المجتمع، هم أفراد المؤسسات العسكرية، لذا أصبح من الضروري بحث ما يجب أن يتمتع به المتهم العسكري من حقوق تتمثل في تمتعه بمحاكمة عادلة ونزيهة، خاصة وأن الجرائم العسكرية قد توسعت بتوسع وتطور مؤسسة الشعب المسلح ومع ذلك لم تحظ بالعناية المستحقة لها في الدراسة والبحث، وأيضاً حداثته التي كانت سبب النقص الشديد في أبحاثه ودراساته ولاسيما في ليبيا، حيث مازال هذا الموضوع جديداً ولم يطرق بابه إلا قليلون ، وبالإضافة إلى أهميته وحداثته، شفافيته؛ فالأصوات المتعالية والمنادية بضرورة احترام حقوق الإنسان التي أصبحت تنطلق من كل أرجاء العالم وتدعو إلى الشفافية والوضوح في كل ما هو لصيق بحقوق الإنسان وأمنه، وما يشهده العالم من ثورة عالية ومدهشة في مجال الاتصالات التي جعلت من العالم قرية واحدة ، الصورة فيها واضحة للناس ، ومن أجل إظهار صورة بلادنا وما يتمتع به الإنسان سواء، كان عسكرياً أو مدنياً من ضمانات تحفظ حقوقه وتحافظ على حريته، فقد أصبح لزاماً على كل باحث ينتمي إلى هذا الوطن الطيب أن يوضح بجلاء ما اتخذ من إجراءات وما صنع من تشريعات تضمن للفرد حقوقه وحرياته. ومن ثم فإن الإشكالية التي تظهر من خلال الدراسة والبحث حول القضاء بالشعب المسلح تنحصر أساساً حول مدى ما كفله القانون رقم (1/1429) بإصدار قانون الإجراءات بالشعب المسلح من ضمانات تعطي للمتهم حقه في أن يتمتع بمحاكمة عادلة ونزيهة ؛ ومن هنا نستطيع تحديد نطاق دراسة هذا البحث بالمتهم في مرحلة المحاكمة ولا يتعداه إلى المحكوم عليه الذي صدر ضده حكم بات بالإدانة، وأيضاً يتحدد نطاق البحث في مرحلة واحدة من مراحل الدعوى، وهي مرحلة المحاكمة، وأخيراً في نطاق القانون رقم (1/1429) بشأن إصدار الإجراءات الجنائية بالشعب المسلح، ولم ننس الإحالة التي وردت في المادة (112) من هذا القانون بخصوص ما لم يرد بشأنه نص خاص في قانون الإجراءات الجنائية بالشعب المسلح على قانون الإجراءات الجنائية العام وأيضاً رجعنا في بعض المسائل إلى قانون نظام القضاء وقانون المرافعات المدنية والتجارية .
وانطلاقاً من العنوان الذي تم اختياره لموضوع البحث واتساقاً مع كل ما تقدم فإن خطة الدراسة لا تخرج عن إطار ما سبق ذكره وهي كالآتي :
المقدمة :
التمهيد :
الفصل الأول : المحاكم العسكرية اختصاصاتها وتطورها التاريخي.
المبحث الأول : المحاكم العسكرية وأساسها التاريخي .
المطلب الأول : التطور التاريخي للقضاء العسكري .
المطلب الثاني : التعريف بمحاكم الشعب المسلح .
المبحث الثاني : الجرائم التي تختص بنظرها محاكم الشعب المسلح .
المطلب الأول : تعريف الجريمة العسكرية .
المطلب الثاني : اختصاص محاكم الشعب المسلح .
الفصل الثاني: الضمانات المتعلقة بالمحاكمة.
المبحث الأول : الضمانات المتعلقة بهيئة الحكم.
المطلب الأول : القاضي في محاكم الشعب المسلح .
المطلب الثاني : العناصر المكملة لهيئة الحكم في محاكم الشعب المسلح.
المبحث الثاني : الضمانات المتعلقة بالقواعد العامة للمحاكمة.
المطلب الأول : علانية المحاكمة و شفوية المرافعة.
المطلب الثاني : حضور الخصوم وتدويين المحاكمة وحق المتهم بالاستعانة بمحام.
الفصل الثالث :الضمانات المتعلقة بالحكم.
المبحث الأول : شروط إصدار الحكم.
المطلب الأول : الشروط الموضوعية للحكم.
المطلب الثاني : الشروط الشكلية للحكم .
المبحث الثاني : ضمانة حق الطعن في الأحكام العسكرية.
المطلب الأول : مبدأ التقاضي على درجتين .
المطلب الثاني : طرق الطعن في الأحكام العسكرية .
وبعد سرد خطة الدراسة نقوم أهم النتائج والتوصيات التي توصلت إليها هذه الدراسة .
أولاً : النتائج :
1. إن القضاء العسكري هو قضاء قديم، حيث امتدت أصوله من العصر الفرعوني القديم، ثم توالى وجوده وتطوره في العصور الوسطى والعصر الإسلامي وما بعده إلى أن وصل إلى وقتنا الحالي ، وهو في كل الأزمنة تملي الضرورة وجوده إلى جانب القضاء العادي كقضاء خاص يختص بمحاكمة العسكريين .
2. إن محاكم الشعب المسلح هي محاكم ذات طبيعة استثنائية أملت الظروف إنشاؤها حفاظاً على سلامة وأمن الدولة وذلك لما تتميز به الجريمة العسكرية من خطورة شديدة ، وتنقسم المحاكم في الشعب المسلح إلى نوعين ، قضائية وشبه قضائية ، فالقضائية تشمل المحكمة العليا والمحاكم الدائمة في الشعب المسلح ، وشبه القضائية وتشمل المحاكم الدورية والميدانية .
3. إن المحاكم الدائمة في الشعب المسلح هي الأصل في القضاء بالشعب المسلح ، حيث أوكل لها المشرع سلطة الفصل في جميع القضايا التي تختص بنظرها طبقاً للقانون، فهي صاحبة الاختصاص القضائي الأوسع في الشعب المسلح ، ولولا الظروف الخاصة التي تحتم إنشاء محاكم ضيقة وفورية في وحدات الشعب المسلح، لجاز القول بأن المحاكم الدائمة هي صاحبة الاختصاص العام لنظر القضايا الجنائية في الشعب المسلح .
4. أن قانون إجراءات الشعب المسلح لم ينص صراحةً على اختصاص محاكم الشعب المسلح بمحاكم الأحداث الخاضعين لأحكام قانون العقوبات في الشعب المسلح ، ولم يضع له أحكاماً خاصة الأمر الذي يتعين معه الرجوع إلى قانون الإجراءات الجنائية العامة، وفقاً للإحالة الواردة في المادة (112) إجراءات بالشعب المسلح ، حيث إن المادة (316) إجراءات جنائية عام نصت على أنه ( تشكل محكمة الأحداث في دائرة كل محكمة جزئية من قاضي يندب لذلك ) ، ذلك أنّ المادة المذكورة تعتبر نصاً خاصاً في محاكمة الأحداث، وبالتالي يعتبر النص واجب التطبيق في محاكمة المتهم الحدث ولو كان عسكرياً .
5. في حالة تنازع الاختصاص بين محاكم الشعب المسلح والمحاكم العادية فإن المحكمة العليا هي المختصة بفض النزاع . أما إذا كان التنازع بين محاكم الشعب المسلح، فالمحكمة العليا العسكرية هي المختصة بفضه .
6. إن استقلال القاضي من المبادئ الأساسية التي نصت عليها أغلب الدساتير في العالم، واعتبرته الركيزة الأساسية لإقامة العدل في الدولة، وأحاطته بالضمانات التي تكفل استقلاله في الرأي والحيدة والتجرد، وتمكينه من مواجهة أي ضغوط أو مؤثرات . وقد أكد قانون الإجراءات الجنائية على هذا المبدأ في المادة (36) التي نصت على أن ( قضاة الشعب المسلح مستقلون في أعملهم، ولا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون والضمير ، وأنه لضمان الاستقلال الكامل للقضاة عهد المشرع بكل ما يتعلق بشؤونهم باللجنة العامة المؤقتة للدفاع ، وذلك من حيث تعيينهم وتحديد درجاتهم ونقلهم وترقيتهم) .
7. لكي يكون انعقاد المحكمة صحيحاً قانوناً فإنه يجب أن يضم تشكيلها أحد أعضاء نيابة الشعب المسلح كممثل لها ، والنيابة في الشعب المسلح شأنها شأن النيابة العامة ، سلطة قضائية تجمع بين سلطتي الاتهام والتحقيق . وإن المدعي العام يتبؤ قمة الهرم التنظيمي لنيابة الشعب المسلح، وهو أمين المجتمع، ووكيله في الدعوى الجنائية العسكرية، ويباشرها في جميع أنحاء الدولة بنفسه أصالةً، أو بواسطة أحد أعضاء نيابة الشعب المسلح .
8. أن حق المتهم في الاستعانة بمحامٍ هي ضمانة مهمة للمتهم لحماية حقوقه في الدعوى الجنائية لكي تكون محاكمته عادلة ومؤسسة على إجراءات مشروعة، ويكون هذا الحق واجباً في الجرائم التي لا تقل عقوبتها عن السجن أي في الجنايات.
9. إن مبدأ التقاضي على درجتين فيه ضمانة أكبر لتحقيق العدالة الجنائية لأن الاستئناف ينقل الدعوى إلى محكمة أعلى درجة وقضاتها أكثر خبرة وأخطاؤهم أقل احتمالاً . وعلى الرغم من أنه لم يتم النص صراحةً على أن المحكمة العليا في الشعب المسلح هي محكمة استئناف إلا أن منحها صلاحية الفصل في الموضوع ومناقشة الأدلة الموضوعية مع سلامة التطبيق القانوني السليم من المحاكم الدائمة يجعلها أقرب إلى محاكم الاستئناف في القضاء العادي .
10. وأن الطعن بالمعارضة غير متاح حيث نص المادة (85) إجراءات الشعب المسلح على الآتي ( إذا سلم المحكوم عليه غياباً أو ألقي القبض عليه يسقط الحكم الغيابي الصادر في حقه ويعاد النظر في الدعوى أمام المحكمة وفقاً لأحكام هذا القانون ) أي أن المشرع لم يفرق بين الجنح والجنايات في الحكام الغيابية ويسقط الحكم الصادر في أيهما بتسليم المتهم نفسه أو إلقاء القبض عليه .
ثانياً : التوصيات :
1. فيما يتعلق بالاختصاص الشخصي بمحاكم الشعب المسلح يرى الباحث أن الاختصاص الاستثنائي يجب أن يكون محدودًا، ولا يجوز التوسع فيه، بحيث إذا ساهم مدني مع عسكري في جريمة عسكرية ينعقد الاختصاص للمحاكمة العامة إذا لم تكن التهم المنسوبة إليهما مرتبطة ارتباطًا لا يقبل التجزئة، وإلا يحال المدني إلى القضاء العام والعسكري إلى المحاكم العسكرية وذلك إعمالاً بمبدأ مثول المتهم أمام قاضيه الطبيعي .
2. يقترح الباحث إنشاء جهاز قضاء عسكري على غرار الجهاز القضائي العام، يشترط فيه المؤهل القانوني، والخبرة التي يكتسبها من خلال التدرج الوظيفي للعمل بهذا الجهاز من الدرجات الدنيا إلى العليا .
3. كما يقترح الباحث صدور قانون يتضمن النص على تشكيل مجلس أعلى للقضاء العسكري، يتكون من القائد الأعلى للقوات المسلحة رئيسًا للمجلس، وأمين اللجنة العامة المؤقتة للدفاع نائب للرئيس، وعضوية كل من رئيس الهيئة العامة للقضاء العسكري، ورئيس المحكمة العليا بالشعب المسلح، والمدعي العام، وأقدم رؤساء المحاكم الدائمة ، بحيث يختص المجلس بتعيين القضاء في الشعب المسلح، وأعضاء النيابة، وترقيتهم، ونقلهم، وندبهم، وتأديبهم، بما يكفل حيدتهم، واستقلالهم، وعدم عزلهم، ويعطيهم حصانات وصلاحيات على غرار زملائهم في القضاء العام.
4. يقترح الباحث أيضًا تسمية المحكمة العليا بالشعب المسلح بمحكمة الاستئناف بالشعب المسلح، تستأنف أمامها أحكام المحاكم الدائمة بالشعب المسلح، وتعتبر محكمة ثاني درجة، ويطعن في أحكامها أمام المحكمة العليا باعتبارها محكمة قانون ( محكمة النقض ). ويتوسع فيها بإنشاء محكمتي استئناف أخرى في المنطقة الشرقية والوسطى .
5. فيما يتعلق بحق الطعن في الأحكام الصادرة عن المحكمة العليا العسكرية يقترح الباحث أن تخضع أحكامها لرقابة المحكمة العليا من حيث مراقبة سلامة وتطبيق القانون، وتفسيره، وتأويله؛ وحتى يقترب القضاء العسكري من القضاء العادي من حيث الضمانات .
6. يقترح الباحث إنشاء إدارة بالهيئة العامة للقضاء العسكري تسمى إدارة المحاماة بالشعب المسلح تضم القانونيين الذين منحوا الصفة القضائية، يقومون بالدافع أمام محاكم الشعب المسلح حتى يكتسبوا خبرة قضائية يمكن أن تكون نواة لتعيينهم قضاة في القضاء العسكري وتخفف العبء المالي الذي تنفقه الميزانية العسكرية على ندب المحامين من خارج هذا القطاع، ولنا في تجربه المحاماة الشعبية بالقضاء العادي خير مثال .
وفي الختام لا يسعني إلا أن أتقدم بأخلص عبارات الشكر والتقدير للدكتور : محمد رمضان بارة، الذي شد من همتي وأسعدني بقبول إشرافه على هذه الرسالة ، والذي كان لإرشاداته السديدة وتوجيهاته الحكيمة ونصائحه القيمة بعد تسديد الله سبحانه ، الفضل الأول والأثر الطيب في إعداد هذا البحث ؛ كما أتقدم بجزيل الشكر والامتنان إلى أعضاء هذه المناقشة الأستاذ الدكتور : عبد الهادي أبو حمرة الذي سمعت عن معاملته الشديدة والقاسية، ولكن ما أن قابلته وتحدثت معه لمدة بسيطة ظهر لي العكس تماماً من أسلوبه الراقي ومعاملته الطيبة، والعقيد الدكتور: محمد الغرياني الذي شد من همتي وعاملني معاملة الأب لابنه، وجزاهم الله خيرا وأعطاهم ما يتمنون .
ولا يفوتني في هذا المحراب أن أسجل جزيل شكري وعرفاني بالجميل لمدير كلية الدراسات العليا العميد الدكتور : أبو غرارة البوعيشي ، الذي كان مرشداً وصديقاً منذ بدايتي في الدراسة بهذه الكلية ، التي تعتبر في نظري من أفضل الكليات في الجماهيرية، وأشكره على صبره وسعة صدره وابتسامته الدائمة عند مقابلاته لي في مكتبه، وأيضاً هذا الشكر موصول للعاملين بهذه الكلية .
وأتقدم بأحر التقدير والاعتزاز إلى والدي الذي كانت له النكهة القانونية عند إكمالي لكل فصل ومراجعته معي سطراً بسطر ، وإلى كل من ساهم في هذا البحث ولو بكلمة طيبة، أو محفزة وخاصة الأستاذ المستشار عطية الحداد والدكتور علي شقلوف ، وأيضاً السيد اللواء فرج الحضيري رئيس الهيئة العامة للقضاء والعميد علي المبروك رئيس المحكمة الدائمة بمصراتة ، وكافة العاملين بالمحكمة الدائمة الذين هيئوا لي من الأسباب ما ساعدني لإكمال هذه الدراسة .
وأولاً وأخيراً أسجد لله حمداً وشكراً على نعمه وتوفيقه لي في إكمال هذا البحث ولا أزعم أبد أنني أوفيت هذا الموضوع حقه في البحث والدراسة، بل أشعر بالقصور والنقص ولا شك أن ما يخفف هذا الشعور هو حقيقة إيمانية بأن الكمال لله وحده .